أخبار

خبير ألماني: برلين تخاطر بسمعتها عبر هوسها غير المسبوق بإسرائيل

 يعُدّ الدكتور ميشيل لودرس واحدا من الأصوات الألمانية القليلة التي لديها اطلاع واسع على أوضاع المنطقة العربية. يتحدث العربية، إذ درس الأدب العربي في دمشق، ودرس لاحقا الدراسات الإسلامية والعلوم السياسية في برلين.

عمل لودرس سنوات صحفيا ومراسلا في الشرق الأوسط لصالح مؤسسات ألمانية، وهو أستاذ جامعي زائر في كليات عدة داخل ألمانيا وخارجها. ترأس الجمعية الألمانية العربية لسنوات، وأصدر كتبا عدة نالت انتشارا واسعا؛ منها: “الأخلاق قبل كل شيء؟ كيف أخفق الغرب في أفغانستان؟” والكتاب الذي ترجم للإنجليزية “الارتداد.. كيف أفسد الغرب الشرق الأوسط؟” و”في ظل الله.. لماذا علينا ألا نخاف من الإسلام”؟ الذي تُرجم إلى العربية.

في هذا الحوار مع الجزيرة نت، يتحدث ميشيل لودرس عن “الهوس الألماني” في دعم إسرائيل وتضييقها على الفلسطينيين، وكيف تخسر ألمانيا سمعتها في العالم لهذا السبب، وما يمكن أن ينجم عن ذلك من آثار سلبية، كما يتحدث عن “غطرسة ألمانية أخلاقية” في التعامل مع العالم، خاصة العرب، ويقدم رؤيته للحرب على غزة، ولآفاق الحل.

  • اتخذت ألمانيا مواقف داعمة لإسرائيل بشكل كبير تجاوز مجمل الدول الأوروبية. هل يعود الأمر للعلاقة الخاصة التي تجمع الدولتين فقط، حسب ما تعلنه برلين على الدوام؟

تعدّ ألمانيا نفسها دولة ذات علاقة خاصة مع إسرائيل بسبب الماضي الألماني الحديث، وما حدث في المحرقة. لكن العلاقة أصبحت أكثر تشددا، وباتت ألمانيا تتقرب أكثر من إسرائيل خلال السنوات الماضية، ويبدو أن السياسيين الألمان والعديد من صناع الرأي يعتقدون أن دعم إسرائيل دون قيد أو شرط، يعني أنهم تعلموا الدروس الصحيحة من التاريخ الألماني الحديث.

لذلك، حتى لو كانت الحكومة الإسرائيلية يمينية متطرفة، فالسياسيون الألمان لا يرون سببا للتفريق بين التضامن مع إسرائيل والتضامن مع حكومة نتنياهو. وعلى الرغم من كل الدمار الذي تتحمله هذه الحكومة الإسرائيلية حاليا في قطاع غزة، فإن معاناة الفلسطينيين في القطاع ليست في الأساس قضية ذات أهمية في وسائل الإعلام الألمانية، أو في أوساط السياسيين الألمان.

  • لكن لماذا ارتفعت شعبية إسرائيل بين السياسيين الألمان مؤخرا؟

تقليديا يمكنك القول، إن الأحزاب المحافظة وكذلك الأحزاب الشعبوية اليمينية، ليس في ألمانيا فقط ولكن في الدول الأوروبية الأخرى، تحب سياسة القبضة الحديدية تجاه العرب وتجاه المسلمين، الذين يُنظر إليهم على أنهم تهديد للاستقرار الأوروبي

السبب الآخر، أنه يبقى من السهل سياسيا تقديم الدعم الكامل لحكومة نتنياهو بدلا من الإدلاء برأي مختلف. ولكن إذا بدأت بالتفكير بشكل مختلف، ستقول، حسنا.. التضامن مع إسرائيل ممكن، ولكن ليس التضامن مع “إسرائيل الكبرى”، وليس التضامن مع الحكومة الإسرائيلية التي تقتل الفلسطينيين بالآلاف. إذا نظرت إلى الأمر من هذا المنظور، فستدرك أنك بحاجة إلى إجراء تمييز، والتمييز أمر صعب دائما بالنسبة للسياسيين الذين يفضلون الإجابات السهلة على القضايا المعقدة.

  • هل يمكننا القول إن ألمانيا تخاطر بسمعتها كدولة قادرة على لعب أدوار دبلوماسية، كون ألمانيا لم تكن داعمة لإسرائيل بكل هذا الشكل في الماضي؟

أعتقد أنه لا ألمانيا ولا الاتحاد الأوروبي قادران على لعب أي دور في جهود الوساطة في الشرق الأوسط. الولايات المتحدة هي صاحبة الأهمية، خاصة عندما يتعلق الأمر بالعلاقات مع إسرائيل. لكنني أعتقد أن ألمانيا تخاطر بالفعل بخسارة سمعتها في أجزاء أوسع، ليس في العالم العربي أو الإسلامي فقط، بل كذلك لدى دول الجنوب عامة، لأن معظم الناس، ومعظم الحكومات، ومعظم صناع الرأي في هذا الجزء من العالم يدعمون الفلسطينيين، وليس موجة الدمار الإسرائيلية في غزة، وهو ما رأيناه خلال المظاهرات من كولومبيا إلى إندونيسيا.

ومن ثم، فتمسك ألمانيا بمواقفها الحالية سيأتي بنتائج عكسية، لأن الناس لن ينسوا هذا الموقف الألماني. من المقبول أن تشعر ألمانيا بروابط قوية مع إسرائيل، ولكن من المؤكد أنه من غير المقبول أن نلتزم الصمت عندما يتعلق الأمر بموجة الدمار الهائلة الواقعة في غزة.

الحكومة الإسرائيلية لا تشن حربا ضد حماس فحسب، بل هي تشن حربا أساسا ضد الفلسطينيين في قطاع غزة، وعلى مستوى آخر كذلك في الضفة الغربية، لكن صناع القرار الألمان لا ينظرون إلى هذا الأمر بهذه الطريقة. ولكن أود التوضيح أن ألمانيا كانت دائما داعمة للمواقف الإسرائيلية، ولكن لم نشهد قط مثل هذا الهوس بإسرائيل في ألمانيا كما هو الحال الآن.

  • لكن، ألا تخاطر ألمانيا كذلك بخسارة سمعتها فيما يتعلق بالديمقراطية الداخلية واحترام حق التعبير، خاصة أن برلين تتحدث دوما عن حقوق الإنسان في الخارج، وتجعل منها واحدة من أساسيات سياستها الخارجية؟

من الواضح تماما أن هناك كثيرا من النفاق في هذا الموقف الألماني الرسمي، لأن التظاهر السلمي، على سبيل المثال، هو حق داخل دولة ديمقراطية. ولكن كما ذكرت، عاش المتظاهرون العرب والفلسطينيون فترات عصيبة في الأسابيع الماضية في ألمانيا، وصارت بعض العبارات في المظاهرات ممنوعة قانونيا مثل شعار”من النهر إلى البحر، ستتحرر فلسطين”، وعموما، تُستخدم معاداة السامية كسلاح لحد أن انتقاد إسرائيل في ألمانيا بات أكثر صعوبة.

وبالطبع يجب أن أقول، إن ألمانيا تتبع إلى حد كبير خط الحكومة الإسرائيلية، وقطاعات واسعة في ألمانيا باتت تعتمد السردية الإسرائيلية التي تعدّ انتقاد إسرائيل معاداة للسامية.

  • ألا يهدد هذا بتحوّل سياسة ألمانيا إلى سياسة مكروهة في أجزاء كبيرة من العالم، كما حدث للسياسة الخارجية للولايات المتحدة؟

نعم، ألمانيا تخاطر بالفعل بدفع الثمن في المستقبل. الناس لديهم ذاكرة قوية، ومن المؤكد أن العرب والمسلمين يلاحظون الموقف الألماني، ولن يكون بالطبع من السهل إقامة علاقات جيدة مع عدد منهم. عندي كذلك تخوّف من أن يكون هناك شعور بالرعب تجاه الدول الغربية التي تدعم هذه الفظائع في قطاع غزة، كما أخشى أن يترجم الغضب ذات يوم إلى أعمال عنف أو حتى أعمال إرهابية. وأعتقد أن هذا يشكل تهديدا حقيقيا في أوروبا وفي ألمانيا.

  • كنت رئيسا للجمعية الألمانية العربية وعملت كثيرا على تعزيز الصداقة بين الألمان والعرب. هل تخسر ألمانيا كثيرا في العالم العربي بسبب علاقتها مع إسرائيل؟

صحيح، وكما ذكرت فإن التعاطف في العالم هو بالتأكيد إلى جانب الفلسطينيين، وليس إلى جانب الإسرائيليين الذين ينفذ جيشهم عمليات قتل كبيرة في قطاع غزة راح ضحيتها آلاف المدنيين. أعتقد أن هناك غطرسة قوية في ألمانيا، حيث يعتقد صناع القرار أنهم يستطيعون الاستغناء عن بقية العالم، لأنهم يرون أنفسهم في مرتبة عالية جدا على المستوى الأخلاقي، ويعتقدون أنهم تعلموا الدروس الصحيحة من التاريخ الألماني الحديث.

أعتقد أن الغرب عموما لم يفهم بعد أن العالم يتغير بسرعة، وأن الغرب لن يظل محور عملية صنع القرار العالمية. ألمانيا بالتحديد ليست بتلك الأهمية الكبيرة خاصة في نظر دول الخليج، ودول؛ مثل: الصين والبرازيل والهند هي أكثر أهمية من الناحية الاقتصادية، بينما في شمال أفريقيا، لا تزال ألمانيا ذات أهمية كونها شريكا في التجارة ومشروعات التنمية.

أعتقد أن ما نفتقر إليه بشكل عام هو كيفية القرب من بعضنا بعضا، وبالطبع، خاصة أن ظاهرة الهجرة أدت إلى نوع من خلق صور سلبية تجاه العالم العربي والإسلامي في أجزاء كبيرة من أوروبا.

  • هل أصبح المناخ العام الألماني مناوئا للمهاجرين، حيث جُلّ الأحزاب باتت تتفق على اتخاذ مواقف متشددة تجاه اللاجئين والمهاجرين المسلمين والعرب؟

هذا صحيح، على سبيل المثال، عندما تنظر إلى الطريقة التي يُعامل بها اللاجئون من أوكرانيا، والطريقة التي يُعامل بها اللاجئون من سوريا وأفغانستان والعراق، فستجد أن هناك فرقا كبيرا بصرف النظر عن حقيقة أن معظم الأوروبيين يتفقون على أن أوروبا لا يمكنها قبول المزيد من اللاجئين .

ومع ذلك، فإن العالم العربي يعاني من مشكلة الصورة. يرتبط العالم العربي عموما، عند المواطن الألماني العادي، بالعنف والتخلف. صحيح أن ألمانيا استقبلت مليون لاجئ من سوريا ومن دول إسلامية وعربية وأخرى، لكن المزاج حاليا اختلف بعد استقبال مليون لاجئ من أوكرانيا.

  • ننتقل إلى ما يجري حاليا في غزة. في رأيك ما الأهداف السياسية وراء إعلان حماس عملية “طوفان الأقصى”؟

أولا عليّ أن أقول، إن هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، يعدّ في التعبير القانوني، جريمة حرب، ولذلك فهو غير مسوغ بالنسبة لي، ولكن كذلك، الفلسطينيون يدفعون بدورهم حاليا ثمنا باهظا للغاية. أعتقد أن السبب هو رغبة حماس بتغيير الوضع الجيوسياسي في غزة وما حولها. الإستراتيجية الإسرائيلية تجاه غزة كانت تتمثل دائما في إبقاء القطاع هادئا، وجعله سجنا ضخما لا يتاح للناس فرصة للهروب منه.

بشكل منتظم، منذ 2007، هاجمت إسرائيل قطاع غزة بشكل مكثف من أجل خلق فرض ما يعدّونه حالة هدوء وعدم التحدي. لكن الآن، ومع هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، غيّرت حماس المعادلة وأصبحت الآن قضية عالمية. وأعتقد أن هذا، من الناحية السياسية، هو ما كانت قيادة حماس تحاول تحقيقه، وهو أن تكون للقضية السياسية هذا الزخم الدولي، وأن تكون حاضرة في “الأجندات” الدولية.

ومع ذلك، فمن الممكن أن يصير وضع الفلسطينيين في غزة أسوأ في النهاية مما كان عليه قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي. لأنني أعتقد أن إستراتيجية الجانب الإسرائيلي هي نشر كثير من الرعب والأذى في قطاع غزة، مما يجعلهم يأملون في سحق جميع أشكال المقاومة. وأعتقد -كذلك- أن الإسرائيليين جادون للغاية بشأن فكرة دفع عدد أكبر من الفلسطينيين نحو مصر.

  • ولكن هل تستطيع إسرائيل في هذا الإطار سحق حركة حماس كما توعدت؟

لا، هذا غير ممكن. بالطبع إسرائيل ستكون قادرة على استهداف عدد من الأشخاص المرتبطين بحماس، سواء في القطاع أو خارجه، لكنهم لن يتمكنوا من سحق الحركة ككل. سبب قوة حماس هو إن أمكنني القول هو فلسفتها، فالسلطة الفلسطينية أخفقت في تحقيق آمال الفلسطينيين رغم تعاونها لسنوات مع الجانب الإسرائيلي، لذلك بات العنف بالنسبة للعديد من الأشخاص هو خيار لتغيير الوضع الراهن.

لكن كذلك، وإذا كانت حماس قادرة على إلحاق الأذى بإسرائيل، لكنها لن تتمكن من تحقيق النصر عسكريا أو إضعاف دولة إسرائيل. وفي الوقت نفسه، لن يتمكن الإسرائيليون من سحق وتدمير المقاومة الفلسطينية، وستكون هناك دائما رغبة الفلسطينيين في أن يكونوا أحرارا، وفي إنهاء الاحتلال.

لذلك ليس من المنطقي شن هذه الحروب العبثية التي راح ضحيتها عشرات الآلاف من البشر. وسيكون من المهم أن يتوصل الجانبان إلى اتفاق معا، ولكننا نعلم أن هذا يكاد يكون مستحيلا في الوقت الحاضر.

  • هل هذا يعني استمرار العنف لسنوات وعقود؟

نعم، بل سيصبح العنف أسوأ، لأن المستوطنين والجيش الإسرائيلي في الضفة الغربية، يبذلون كل ما في وسعهم لاقتلاع الفلسطينيين وتدمير ممتلكاتهم. وهذا لا يمكن أن يستمر، ولا يمكن الاعتقاد بأن القوة العسكرية يمكنها سحق شعب آخر، وأخشى أن تصبح الأمور أسوأ بكثير قبل أن يتمكن العقلاء من كلا الجانبين من التحرك.

لكن حتى الحل السياسي أضحى في مأزق. لم يعد هناك مجال لقيام دولة فلسطينية بسبب الاحتلال الإسرائيلي المستمر للضفة الغربية، وحل الدولتين ربما أصبح شيئا من الماضي. فهل نعود لحل الدولة الواحدة؟ ليس هذا كذلك ما يريده الجانب الإسرائيلي، لأن إسرائيل ستتوقف عن كونها دولة يهودية، وستكون عندئذ دولة ديمقراطية، لأن الفلسطينيين سيكونون غالبية في تلك الدولة. إذن كيف يمكن الخروج من هذا المأزق؟ صعب جدا.

  • كتبت كثيرا عن دور الغرب في الشرق الأوسط، هل يمكن أن تتغيّر هذه العلاقة مستقبلا؟

الناس في الغرب لا يحبون تحمل المسؤولية التاريخية عندما يتعلق الأمر بالعالم العربي الإسلامي، فمثلا بريطانيا العظمى تتحمل كثيرا في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. وفي هذا الإطار. الغرب عموما ينظر إلى جل القادة العرب على أنهم غير منتخبين، وأنهم استخدموا القوة للحفاظ على سلطتهم.

لكن أعتقد أنه يجب النظر بشكل بنّاء للدور الذي تلعبه عدد من هذه الدول، ومنها دول الخليج التي أضحت لاعبا مهما في السياسة الدولة. وينطبق هذا بشكل خاص على قطر، لأن قطر أضحت لا غنى عنها عندما يتعلق الأمر بالدبلوماسية الدولية. وأتمنى أن تتعلم الحكومة الألمانية -أيضا- من هذه التجربة في قطر، لأن ما نفتقر إليه في ألمانيا حاليا هو بالضبط هذه القدرات الدبلوماسية. فألمانيا باتت تحب تقسيم العالم إلى الخير والشر، وتحب الوعظ الأخلاقي بدلا من تحليل المشكلات المختلفة،وهذا لا يحل المشكلات بل يجعلها أسوأ.

المصدر : الجزيرة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
%d مدونون معجبون بهذه: