أخبارمقالات وآراء

الحكيم ليس بخيلا..كيف لبخيل أن يهب كل هذا الجمال

د. أماني فؤاد
في عام 1986 يتحدَّث أبي بشغَف عن مسرحية (إيزيس)، التي ستُقدَّم على المسرح ‏القومي بالقاهرة، يعِدُنا بأنه سيصحَبنا لمشاهدتها، فتسرَح خيالاتي محلِّقة؛ سأرى (توفيق ‏الحكيم)، وألمِس عصاه الشهيرةَ والبيريه، حماره وأهل كهفه، ربما سيكون بصُحبته سلطانه ‏الحائر أو شهرزاد، رباطه المقدَّس، وفتاة التذاكر الفرنسية الفاتنة، وشوارع باريس ‏ومقاهيها ومتاحفها، وشمس الفكر، تخيَّلت أنني سأراه رؤية العين، قامة سامقة في صحبة ‏عوالمه الثرية، التي صنعها بمؤلفاته، هي عودة الروح التي انتعشَت بأمل مقابلة هذا ‏الكاتب العظيم، الذي صحبتُ مؤلَّفاتِه طويلا؛ فتعلَّمت فلسفة السؤال، والغوص في ‏المعاني والقضايا.‏
لم يكن الحكيم في كل كتاباته باحثًا عن المألوف، أو مجرَّد الوجود، فحين شغفَ بالمسرح ‏قبْل سَفره، وأثناء فترة بِعثته في فرنسا، عاد إلى مصر 1928؛ ليكتب المسرح النثري ‏العربي ناضجًا في نَصِّه “أهل الكهف”، الذي عالَج فيها فكرة الزمن بتغيرات مراحله، ‏وتأثيره على الإنسان، ثم تلاها بأكثر من ثلاثين مسرحية نثرية، وهو ما جعَله رائدًا يتمتع ‏بالجرأة على ترسيخ المختلف على الساحة الأدبية في ثلاثينيات القرن العشرين، فلقد ‏صدرت “أهل الكهف” ورواية “عودة الروح” عام 1933.‏
‏ وبالرغم من الإنتاج المسرحي الغزير للحكيم، إلا أن عددًا قليلاً من هذه المسرحيات ‏يمكن تمثيلها علي خشبة المسرح ليشاهدها الجمهور، وبقيت معظم مسرحياته من النوع ‏الذي يُطلَق عليه (المسرح الذِّهني)؛ أي نصوص مسرحية كُتبت لتُقرأ، بنية حوارية تستند ‏على الأفكار التي تتجادل، عالَم من الدلائل والرموز التي يمكن إسقاطها على الواقع في ‏سهولة ويُسر؛ لتُسهم في تقديم رؤية نقدية للحياة والمجتمع، تتسم بقدْر كبير من العمق ‏والوعي. ‏
قال عن مسرحه الذِّهني: (إني اليوم أُقيم مسرحي داخِل الذِّهن، وأجعل الممثلين أفكارًا ‏تتحرك في المطلَق من المعاني مرتدية أثواب الرموز.. لهذا اتَّسعَت الهُوَّة بيني وبين ‏خشبة المسرح، ولم أجد قنطرة تنقُل مثل هذه الأعمال إلى الناس غير المطبعة)‏‎.‎‏ ‏
كان لتوفيق الحكيم في كتاباته بتنوُّعها قُدرة على المزْج الفريد بين الواقعي والرمزي، قُدرة ‏على مناقشة الأحداث اليومية التي تشغَل الفرد، والارتفاع بها في حركة من تصاعُد ‏الأسئلة وتوالُدها؛ إلى طرْح ومناقشة القضايا الوجودية الكُبرى، التي تشغل البَشر، مثل ‏العلاقة بين الحاكم والمحكومين وأساليب الحُكم في “عودة الروح”، أو المفاهيم الاجتماعية ‏التي تحكُم العلاقة بين الرجُل والمرأة في “الرباط المقدس”.‏
ولأسلوب توفيق الحكيم قُدرة على جذْب قارئه، ودمْجه في القضية التي يُناقش أبعادها بلا ‏تعقيد أو غموض؛ بل بسلاسة في عرْض الدراما (الصراع) وزواياها المختلفة، ساعَده ‏تمكُّنه من توظيف الخيال والأساطير والرمز في طيات أحداث الواقع العادية. يقول ‏الحكيم واصفًا الخيال: “الخيال هو ليل الحياة الجميل، هو حصننا وملاذنا من قسوة ‏النهار الطويل! إن عالَم الواقع لا يكفي وحدَه لحياة البَشر، إنه أضيق من أن يتَّسع لحياة ‏إنسانية كاملة”‏‎.
اعتمد الحكيم في بنية نصوصه – سواء الروائية أو المسرحية – على الرمز وقصص ‏التاريخ الموروثة وشخصياته، على الأساطير، فلقد درَس المسرح اليوناني بحبْكته ‏وأساطيره؛ حين عرَف أنه أصْل المسرح الأوربي الذي شغف به، وظَّف الأساطير برؤية ‏خاصة، وبحَث عن الأساطير الفرعونية التي تُميز هُوَيتنا، قال في توظيفه لأسطورة ‏إيزيس: “ليس المقصود هنا تصوير الحياة الفرعونية، أو بسْط العقائد المصرية القديمة؛ ‏بل المقصود… إبراز شخصيات الأسطورة إبرازًا جديدًا إنسانيًّا، وتخريج معناها على ‏المفهوم الحي في كل عصر وفي العصور الحديثة على الأخص.” في “إيزيس” – التي ‏كُتبت في الخمسينيات – أراد الحكيم أن يناقِش، هل على المواطن العادي أن يشترك ‏ويتفاعَل مع أحداث بلده، أم يقتصر دوره على المراقبة من بعيد، فهو الذي قال: “إنك ‏تفترض أن الناس جميعًا قابِلون أن يكونوا أحرارًا، وننسى أن أغلب الناس لا يستطيعون، ‏ولا يريدون أن يكون لهم رأيٌ.. إنما يستسهلون ارتداء الآراء التي تُصنع لهم صُنعًا.” ‏وتأثَّر الحكيم أيضا بكتاب الموتى الفرعوني، والقرآن الكريم، والفلكلور الشعبي المصري، ‏والعربي، أراد أن يُثري عوالِمَ نصوصه المسرحية بروافدَ مختلفةٍ من طبقاتنا الثقافية ‏المتنوعة، في تناصَّات مختلفة المصادر والحضارات، التي انصهرت في كيان الشخصية ‏المصرية الاعتباري، استهدف أفكارًا لتصل قرَّاءه؛ ولذا يتبدَّى حرصه في نصوصه كلها ‏على المعنى الواضح، وعدم المبالغة أو الإغراق في الغموض؛ فلديه رسالة تتطلع لإيقاظ ‏الوعي، في فريدته الرائدة (عودة الروح)، التي أثَّرت في كل أجيال الكتاب من بعده، ‏يناقش الحكيم العلاقة بين الحاكم والمحكومين، ويدمج تاريخ حياته في الطفولة والصِّبا ‏بتاريخ مصر، فيجمع بين الواقعية والرمز والأسطورة في شخصية “سنية”، التي تتقاطع ‏مع شخصية إيزيس.‏
وللحكيم قُدرة فائقة على ابتكار الشخصيات، وتجسيد أبعاد خاصة بها ببراعة فائقة، رسم ‏أبعادها بحيوية للدرجة التي تُشعرك أنها تتحرك وتتحدث بجوارك، شخصيات ثرية بأفكارها ‏وصراعها مع الوجود من حولها، بالإضافة إلى قُدرته على تنوُّع مستويات الحوار؛ بما ‏يناسب كل شخصية وثقافتها وطبيعتها، ويتَّفق مع مستواها الفكري والاجتماعي. ‏
كما استطاع في أعماله المسرحية تفادي المونولوج المحلِّي، الذي كان الطابع الغالب على ‏الدراما المصرية قبْله، وفي الوقت ذاته لم يبتعد عن تجسيد البيئة المصرية بوضوح؛ من ‏خلال قُدرته على تصوير مشاكل المجتمع المصري في ذلك الوقت، وهو ما يشهد بتمكُّنه ‏ووعْيه، وبما طوَّعه من حصيلة لغوية ثرية؛ تمكِّنه من نقْل نماذج شخوصه المتباينة، ‏التي جسَّدت مراحل تاريخية مختلفة. كما يمتاز أسلوب توفيق الحكيم بالدِّقة والتكثيف ‏الشديد، وحشْد المعاني والدلالات الثرية، وإبراز فروقها الطفيفة، والقدرة الفائقة على ‏التصوير؛ ففي جُمل قليلة يحشد من المعاني ما قد لا يبلغه غيره في صفحات طوال. كما ‏يعتني عناية فائقة بدِقة تصوير المشاهد، موظِّفًا لمتطلبات المسرح الذي يُشاهَد بالعين، ‏أي بحشْد أدق التفاصيل، والحرص على تجسيد حيوية الحركة، أما فيما يتعلَّق بوصْفه ‏للجوانب الشعورية الداخلية، والانفعالات النفسية؛ فلقد برَع الحكيم في الغوص في العمق ‏البَشري، وكهوفه وتناقضاته وضَعفه وقوَّته، وهو ما يُنبئ بوعي وثقافة نفسية متبحرة، ‏وتأمُّل ناصع للوجود البَشري.‏‎
يقول نُقاد الحكيم: إن كتاباتِه مَرَّت بثلاث مراحل‎:‎
الأولى: جاءت عِباراتُه قليلة، فضفاضة إلى حدٍّ كبير، ومن ثم فقد لجأ فيها إلى اقتباس ‏كثير من التعبيرات السائرة لأداء المعاني التي تجُول في ذِهنه. وفي هذه المرحلة كتَب ‏مسرحية: أهل الكهف، وقصة عصفور من الشرق، وعودة الروح‎.‎
في المرحلة الثانية بحَث عن التطابق بين المعاني في عالمها الذهني المجرَّد، والألفاظ ‏التي تعبِّر عنها من اللغة، فجاءته مطواعة بشيء من التدرج، ثم التمكن من الأداة اللغوية ‏والإمساك بناصية التعبير الجيد. وهذه المرحلة تمثِّلها مسرحيات شهرزاد، والخروج من ‏الجنة، ورصاصة في القلب، والزمار‎.‎
في الثالثة تجلَّت قُدرته على صياغة الأفكار والمعاني بصورة سلسة جيدة. وخلال تلك ‏المرحلة ظهر العديد من مسرحياته مثل: سِرُّ المنتحرة، نهر الجنون، وبراكسا، وسلطان ‏الظلام.‏‎
ولا ترجع أهمية الحكيم إلى كونه مبدع (أهل الكهف) – أول مسرحية عربية ناضجة ‏بالمعيار النقدي الحديث – فحسب، وصاحب رواية (عودة الروح)، التي يحكي الكثيرون ‏إن الرئيس الراحل جمال عبد الناصر قد تمثَّلها، وأثَّرت في وعْيه العميق، وخطَّ بقلمه ‏تحت سطور وعبارات منها؛ فألهَمته – بشكل أو بآخَر – في تخطيطه وقيادته لثورة يوليو ‏‏1952.‏
كما تتبدَّى أهمية الحكيم في استلهامه صفحات وشخصيات من التراث المصري في ‏الأعمال المسرحية والروائية، سواء الفرعوني أو الروماني أو القبطي أو الإسلامي، كما ‏أنه استمد أيضًا شخصياتِه وقضاياه المسرحيةَ والروائية من الواقع الاجتماعي والسياسي ‏والثقافي المعاصر لأُمَّته‎.‎
ومن أشهر مسرحيات الحكيم الذِّهنية مسرحية “محمد”، و”بِجماليون”؛ والأخيرة معالَجة فنية ‏لأسطورة إغريقيَّة حول شخصية “بِجماليون”، الإنسان الذي لا يرضَى بأيِّ حال من ‏الأحوال، فلقد ضاق بتمثال المرأة الذي قام بنحْته؛ لأنه لا يتحدث معه ولا يحاوره، فطلَب ‏من القوَى العليا يسبِغ عليها الحياة، وحين دبَّت فيها الدماء؛ عاد وضاق من الآخَر الذي ‏تجسَّد فيها. ‏
ولقد تميَّز توفيق الحكيم بشَغفه في تجريب التيَّارات الأدبيَّة المُختلِفة، يرى دكتور مندور ‏أنَّ الحكيم عَمِل على تطوير أسلوبه في الفنِّ المسرحيِّ ضِمن ثلاث مراحل، مرحلة مسرح ‏الحياة: وهي المرحلة الكتابيَّة التي تقَع بين فترة (1943-1951)م، حيث تمَّ جمْع ‏مسرحيَّات الحكيم فيها ضِمن سلسلتَين، وهُما: “مسرح المُجتمع”، و”المسرح المُنوَّع”، وكانت ‏هذه المسرحيَّاتُ تتطرَّق إلى السلوكيَّات الاجتماعيَّة، والأخلاقيَّة، وتُورِد رأيُ الحكيم في ‏الحياة الاجتماعيَّة. ومرحلة المسرح الذِّهنيِّ: تتضمَّن هذه المرحلة في حياة الحكيم الكتابيَّة ‏الأفكار الذِّهنيَّة التي نُوقِشت بطابع دلاليٍّ، بالإضافة إلى اعتماده التَّجريد في النَّص ‏المسرحيِّ، بدلًا من الصِّراعات المادِّيَّة، ومن المسرحيَّات التي تتناوَلها هذه المرحلةُ: ‏مسرحيَّة “أهل الكهف”، ومسرحيَّة “شهرزاد”، ومسرحيَّة “بِجماليون”. مرحلة المسرح الهادف: ‏تتناوَل هذه المرحلةُ النُّصوصَ المسرحيَّة، التي ألَّفها بعد عام 1952م، وتحمِل رُوحًا ‏وفلسفة جديدة في فِكر الحكيم، فقد عمِل على تأكيد فكرة القيادة في الحياة من خلال ‏إسقاطها على نَصٍّ دراميٍّ، وهذا على خلاف السَّابق من إظهاره لحقائق الحياة، ونقْده ‏لأحداثها، ومن الأعمال المسرحيَّة للحكيم في هذه المرحلة: مسرحيَّة “الأيدي النَّاعمة”، ‏ومسرحيَّة “الصَّفقة”، ومسرحيَّة “أشواك السَّلام”. كان للحكيم تعريفُه الخاص لمسرح العَبَث؛ ‏فكان يعتبر مسرحَ اللامعقول محاولَةً لاستكشاف التلاحم بين المعقول واللامعقول في ‏تفكير الإنسان الشرقي‎.‎
كما اشتُهر توفيق الحكيم – على مدى تاريخه الطويل في المشهد الثقافي المصري – ‏بنسْج الحكايات من حوله، فتارة هو عدو المرأة، المُضرِب عن الزواج، الذي يرى في ‏جمال المرأة التعويض الوحيد عن سطحيتها، رغم إنه من أهم الكُتاب الذين تناولوا قضايا ‏المرأة والمجتمع بحُرية وعقلانية؛ لإبراز الغُبن الذي يقع عليها ضمن التقاليد والمفاهيم ‏الاجتماعية والثقافة الذكورية. وتارةً أخرى يروِّج أصدقاؤه لبُخْله، ويقُصُّون المواقف ‏متندِّرين، في حين يقول عنه نجيب محفوظ: إنه لم يبْخَل بكلِّ ما يملك على أخواته ‏وابنته. لكن يبقَى – الذي لا يعتريه الشكُّ – أن الكاتب والمفكر الذي أنتج كل هذا ‏الإبداع في الفكر والفن، وتحريك الراكد في الحياة الثقافية المصرية والعربية، لا يمكن أن ‏يتَّصف بالبُخل.‏
كما اشتُهر الحكيم بمعاركه الفكرية، التي خاضها أمام ذوي الاتجاهات الفكرية المخالفة ‏له؛ وكانت آخِر معارك الحكيم الفكرية مع الشيخ الشعراوي، ذلك عندما نَشَر الحكيم على ‏مدى أربعة أسابيع ابتداء من 1 مارس 1983 سلسلة من المقالات بجريدة الأهرام بعنوان ‏‏”حديث مع وإلى الله”.‏

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى