استراتيجيات التعامل مع المرض النفسي داخل الأسرة
تلعب الأسرة دوراً هاماً في تنشأة الأطفال نفسياً، والتعامل مع الصعوبات والمشاكل النفسية التي قد يمرون بها، كذلك فإن التعامل مع الصحة النفسية للأزواج يقع الجزء الأكبر منها على عاتق شركائهم، وفي هذا الإطار من المهم أن يكون هناك إدراك عميق وفهم واضح لكافة استراتيجيات التعامل مع المريض النفسي داخل إطار الأسرة، وخاصةً في ظل تقلبات الحياة الحديثة وضغوطاتها؛ والتي كانت سبباً أساسياً في شيوع حالات الإصابة بالمشاكل النفسية والعقلية مختلف أنواعها بين مُختلف طبقات المجتمع.
يُشار إلى المرض النفسي (Mental illness) من قبل الأطباء بالعديد من التعريفات، فيُعرف أحياناً على أنه أحد الاختلالات الوظيفية في الجوانب الوجدانية والسلوكية والإدراكية للمريض، ويُرجع بعض علماء النفس مثل ريتشارد ماير حقيقة الإصابة بالأمراض النفسية إلى العديد من التفاعلات الخاطئة داخل الأسرة خلال فترة التنشئة وما بعدها، وربما تحدث نتيجة عوامل جينية متوارثة بين شجرة العائلة، لذا فإن الشخص المصاب بأحد الأمراض النفسية عادةً ما يكون انعكاساً لأسرةٍ مريضة.
أما عن تشخيص إصابة أحد أفراد الأسرة بالمرض النفسي فإن الدور الأساسي والأولي عادةً ما يقع على عاتق أفراد الأسرة أنفسهم، وذلك في ملاحظة الإصابة والتغيرات التي قد تطرأ على المريض، فالمرضى قد لا يشعرون بحالاتهم إلا بعد أن يتم لفت انتباههم لها، ثم يأتي دور الطبيب، وهو المسؤول عن التشخيص الدقيق لحالة المريض، ومعرفة أسبابها، والبدء في تطبيق خطوات العلاج اللازم لها، سواءً كان علاجاً دوائياً أو علاجاً بالكلام والجلسات.
في بعض الأحيان التأقلم داخل النظام الأسري أمراً صعباً للغاية؛ وذلك في حال معاناة أحد أفرادها من إحدى الحالات النفسية التي تتطلب التعامل معها بنمط يختلف عن الأنماط الاعتيادية.
في هذه الحالة قد تختلف الأدوار ويعاد توزيعها بين الأفراد، فربما يتحمل الأبناء مسؤوليات الوالدين، مثل العناية بأشقائهم الأصغر سناً، وقد يتحملون حتى مسؤولية رعاية الاحتياجات العاطفية أو الجسدية لوالديهم وقد يتحمل أحد الزوجين مسؤوليات شريكه الشخصية أو الأسرية بصورةٍ مؤقته أو دائمة.
قد يشعر الأفراد الذين لديهم أحد أفراد أسرتهم مصاب بمرض عقلي بالخجل من التحدث عن حالتهم مع الآخرين، وبالتالي قد ينسحبون من مُحيطهم تدريجياً، ويبتعدون الأقارب أو الأصدقاء الذين يمكنهم مساعدتهم أو دعمهم، وفي كثير من الأحيان قد يواجهون صعوبات في التعرف على احتياجاتهم والتعبير عنها للآخرين وحتى لأنفسهم. نتيجة لذلك ، كثيراً ما يشعر هؤلاء الأفراد بالعزلة والوحدة.
المرض النفسي داخل الأسرة
ما أبرز الصعوبات التي قد تواجهها الأسرة في هذه الحالة؟
عادةً ما يعاني الأفراد المصابين بإحدى المشكلات النفسية أو أمراض الصحة العقلية الحادة والمزمنة وأسرهم من صعوباتٍ في التعاملات داخل إطار العلاقات الأسرية وخارجها، وتشمل أهم هذه المشاكل ما يلي:
صعوبة العلاقات العائلية والشعور بالعزلة
اضطرابات الأكل مثل نهم الطعام أو النحافة المفرطة
صعوبة الحفاظ على العلاقات العاطفية والصداقات
مواجهة بعض المشاكل في الثقة بالنفس والآخرين
صعوبة الموازنة بين الاعتناء بالنفس والاهتمام بالآخرين
صعوبة وضع وفرض حدود صحية ومتوازنة مع الآخرين
الاحساس المفرط بالذنب والمسؤولية تجاه أفراد الأسرة
الشعور بنوبات الغضب أو الاستياء الحاد والمتكرر
الاحساس بالعار أو الإحراج نتيجة نظرات الآخرين
الدخول في حالات الاكتئاب والعجز والتعب
تنامي المخاوف من توارث المرض النفسي في الأسرة
كما قد تنتاب المريض النفسي بعض الأفكار والمواقف والسلوكيات المهزوزة والمهزومة تجاه للذات مثل “احتياجاتي لا تهم؛ أنا لا أستحق الكثير، لا فائدة من المحاولة “. هذه الأفكار عادةً ما تنطوي على ميل إلى المساواة بين الإنجاز والقيمة الذاتية، مثل: “ربما يمكنني أن أتفوق في شيء ما، أو أن أكون مثاليًا في المدرسة أو في وظيفتي أو علاقاتي. لكن إذا فشلت، فأنا لا قيمة لها وهذا فظيع”.
إذا كنت تواجه أيًا من هذه الصعوبات؛ فأنت لست وحدك، فمن المفيد أن تدرك أن أنماط العلاقات والمشاعر والسلوكيات هذه ساعدتك على التأقلم ومواجهة ضغوطات الحياة حتى الآن ، وحتى سنوات الطفولة الأكثر ضعفًا وألماً، فإنها قد خدمت بشكل أو بآخر وظيفة التأقلم لديك.
ومع ذلك، من المهم أيضًا إدراك أنها قد لا تكون مفيدة وعملية في هذا الوقت من حياتك. والإدراك العميق أن هذه الصعوبات قد تحد من اختيارات حياتك (سواءً أنت أو أحد أفراد أسرتك) كشخص بالغ، وهذه أول خطوة مهمة نحو إيجاد طرق ووسائل جديدة وعملية لتحسين نوعية حياتك والتحرر من التراكمات الذهنية السابقة، والتواصل الفعال مع الآخرين بشكل أفضل.
المرض النفسي داخل الأسرة
استراتيجيات التعامل مع المرض النفسي داخل الأسرة:
توجد العديد من الاستراتيجيات الهامة التي ينبغي العناية بها عند التعامل مع مشكلة المرض النفسي داخل إطار الأسرة، ومن أبرزها نورد لكم ما يلي:
التثقيف الصحي: يُشار إلى أهمية فهم وتعلم ومعرفة العلاجات الممكنة والأعراض والحالات التي قد تواجه المريض النفسيّ، إذ إنّ ذلك يساهم في تقديم الدعم والمساعدة له بكل ثقة، ويكون ذلك من خلال حضور جلسات الدّعم التي تُعقد للأفراد المُحيطين بالمريض النفسي، وكذلك حضور المؤتمرات أو جلسات التدريب التي تدور حول الحالة المطلوبة. متابعة البرامج وكذلك قراءة الكتب والمقالات المُتعلّقة بالأمر.
استحداث أساليب جديد ومفيد للتّعامل مع المُصابين: توجد عدة طرق تساعد على بناء علاقات جيّدة مع المُصابين بالاضطرابات النفسية، أو الحفاظ عليها، مثل التحلي بالصبر وإدراك أنّ عملية التّعافي قد تكون صعبة وطويلة أحيانًا.
تقديم الدعم في حال حدوث أي تغيّرات إيجابية: مثل مُلاحظة تغيّر المواقف أو السلوك، وكذلك إظهار القدرة على تفهّم جميع ما يمرّون به كما لو أنّها تجربة شخصية، وتجنّب إلقاء المواعظ عليهم وإملاءهم بما يُمكن أن تفعله لو كنت مكانهم.
منحهم التشجيع الكافي لمواصلة العلاج: رغم أنّ الخطوات الأولى تكون دائمًا صعبة، إلّا أنّه لا بدّ من محاولة تقديم المساعدة في تحديد المواعيد الأولى مع الطبيب لتشخيص المشكلة، ويُنصح حينها بتدوين أي ملاحظات أو أسئلة مسبقًا واستشارة الطبيب حولها، لمحاولة تغطية جميع الجوانب الرئيسة في المرض.
منحهم الدّعم العاطفي اللازم: يُشار إلى أهمية بثّ وتعزيز الأمل لدى المصابين، وتقديم الدعم العاطفي لمساعدة المُصاب على تخطي مشاعر الوحدة والخجل.
مساعدتهم على تحديد الأهداف: يُنصح بمُساعدة المُصاب على تحديد أهداف واقعية يُمكن تحقيقها خطوة بخطوة والابتعاد على الأهداف غير الواقعية التي يصعب تحقيقها.
عدم افتراض معرفة حاجة المريض: من المهمّ سؤال المُصاب عن الطريقة التي يُفضّلها فيما يتعلّق بتقديم المُساعدة له.
الانتباه لبعض الكلام والتصرفات: توجد بعض النصائح والإرشادات لبعض الأمور التي يُنصح بتجنب فعلها أو قولها للمصاب بالأمراض النفسية، ومنها تجنّب كل قول قد يُشعر المصاب بأنّ طريقة تفكيره بشكل عام قد تكون سببًا لمشكلته، وكذلك تجنّب كل قول يوحي له بسهولة ما يمرّ به وأنّ غالبية الناس تمرّ بما يمرّ به هو الآن.
المرض النفسي داخل الأسرة
كيف يمكنني التأقلم والحفاظ على صحتي النفسية؟
في حال ثبوت إصابتك أو إصابة أحد أفراد أسرتك بأحد الأمراض النفسية، فمن الطبيعي أن تواجه بعض المشاعر المتناقضة مثل الغضب والشعور بالعار والذنب الشديد، لذا تذكر دائماً أنك لست مسؤولاً عن التسبب في مشاكل أفراد عائلتك أو عن إصلاح حالتهم، حيث أن الدخول في دوامة لوم الذات والشعور بالذنب من شأنه أن يترك أثاراً عميقةً على صحتك النفسية، وقد يمنعك من التأقلم مع أوضاع أسرتك، وربما يعيقك عن تقديم يد العون لهم.
ابتكر طرقًا جديدة للعناية بنفسك، تذكر دائماً أن لديك احتياجات وضغوطات مشروعة، وأنه من المقبول تمامًا أن تعتني بنفسك. حاول استبدال الأفكار السلبية بعبارات أكثر إيجابية: “أنا شخص يستحق الأفضل، هذه الحقيقة لا تعتمد على نجاحاتي أو فشلي، حياتي بها تقلبات كثيرة لكن قيمتي وتقديري لذاتي لا يتغير”.
كذلك من المهم أن تثقف نفسك بشأن مرض أحد أفراد أسرتك، بالتأكيد هذا لا يعني أنك بحاجة إلى معرفة كل شيء عن المرض النفسي لأفراد عائلتك، فوظيفتك ليست تقديم العلاج لهم، ولكن تثقيف نفسك بشأن المرض من خلال موارد موثوقة عبر الإنترنت يمكن أن تساعدك على فهم ما يواجهه فرد عائلتك وما قد يسبب مشاكل لعائلتك، كما يمكن لهذا أن يساعدك أيضًا على تهدئة الشعور بالذنب والغضب والاستياء والإحراج والعار والخوف.
ضع في اعتبارك أيضاً زيارة أخصائي الصحة النفسية بنفسك، قد تفيدك استشارة الطبيب – ليس إقراراً أو خوفاً من فرضية أنك قد ترث المرض النفسي لأحد أفراد عائلتك، ولكن نظرًا لأن أخصائي الصحة النفسية يمكن أن يساعدك على فهم كيفية تأثير المرض النفسي لأحد أفراد الأسرة على حياتك.
كما يمكن أن يساعدك الطبيب على استكشاف احتياجاتك وعواطفك غير الملباة أو المكبوتة، علاوة على ذلك، يمكن أن يساعدك اختصاصي الصحة العقلية في تعلم وتطوير طرق صحية لرعاية نفسك والتواصل مع الآخرين، والتعامل مع الصعوبات التي تواجهك في العلاقات والعواطف.
وأخيراً .. يمكن أن تساعد مجموعة الدعم التي تتعامل مع مواقف وحالات شبيهةٍ بحالتك في التقليل مشاعر العزلة والتمعن بشكل أكبر في تجربتك وسماع القصص المشابهة التي تخفف عنك، كما يمكن أن يكون طلب الدعم مفيدًا بشكل خاص عندما يكون أفراد الأسرة الآخرون غير مرتاحين أو يرفضون الاعتراف بالمشكلة.
الاضطرابات النفسية
وفي النهاية .. يجدر بك أن تتذكر أن الحياة المثالية غير موجودةٍ سوى في الأساطير، فالتقلبات والصعوبات التي نواجهها منذ طفولتنا، والمشاكل التي تترك بداخلنا أثراً نفسياً عميقاً، وربما تتطلب منّا التأقلم معها بشكلٍ أو بآخر حتى نهاية أعمارنا هي ديدنُ الحياة وطبعها.
لكن الموازنة ضرورية، وفي ظل تقديمنا يد العون لمن نحبهم من أفراد أسرتنا، لا ينبغي أن نغفل عن العناية بصحتنا وسلامنا النفسي، فنحن مسؤولون عن أنفسنا بشكلّ كلي، وفي حالتنا تلك تصبح المسؤولية تجاه ذواتنا مُضاعفة.