منوعات

مدفع رمضان انطلق مصادفة وصار طقساً حميماً

كان الصيام في الأيام الأولى للدعوة النبوية محدّداً بزمنيْ الغروب والشروق، حتى نهض من بين المسلمين بلال بن رباح الذي صار يؤذن في الناس، مُبلغاً بمواقيت العبادة.

ومع ترامي العقود والقرون، صار شهر الصيام طقس عبادة من نوع خاص له طعامه وشرابه وزينته، كما لو كان كرنفالاً سنوياً.

ومن بين علامات هذا الكرنفال الديني مدفع رمضان الذي جعلت التكنولوجيا الحنينَ إليه يتضاعف، لا سيما مع ارتباطه بذكريات أجيال، كانت ترى في سماع صوته واحداً من ملامح الكرنفال الرمضاني، ومصادر بهجته وإثارته.

 وتشير المصادر التاريخية إلى أن القاهرة كانت أول مدينة يطلق فيها مدفع رمضان. فعند غروب أول يوم من رمضان عام 865 هـ أراد السلطان المملوكي خشقدم أن يجرّب مدفعاً جديداً وصل إليه. وقد صادف إطلاق المدفع وقت المغرب بالضبط، فظن الناس أن السلطان تعمّد إطلاق المدفع لتنبيه الصائمين إلى أن موعد الإفطار قد حان، فخرجت جموع الأهالي إلى مقر الحكم تشكر السلطان على هذه البدعة الحسنة التي استحدثها، وعندما رأى السلطان سرورهم قرر المضي في إطلاق المدفع كل يوم إيذانًا بالإفطار، ثم أضاف بعد ذلك مدفعيْ السحور والإمساك.

 وثمة رواية تفيد بأن ظهور المدفع جاء من طريق الصدفة، فلم تكن هناك نية مبيّتة لاستخدامه لهذا الغرض على الإطلاق، حيث كان بعض الجنود في عهد الخديوي إسماعيل يقومون بتنظيف أحد المدافع، فانطلقت منه قذيفة دوّت في سماء القاهرة، وتصادف أن كان ذلك وقت أذان المغرب في أحد أيام رمضان، فظن الناس أن الحكومة اتبعت تقليداً جديداً للإعلان عن موعد الإفطار، وصاروا يتحدثون بذلك، وقد علمت الحاجة فاطمة ابنة الخديوي إسماعيل بما حدث، فأعجبتها الفكرة، وأصدرت فرمانًا يفيد باستخدام هذا المدفع عند الإفطار والإمساك وفي الأعياد الرسمية، وفق دراسة بعنوان “رمضان: (المسحراتي، والفانوس، والمدفع)” المنشورة في دورية كان التاريخية، ع1، سبتمبر (أيلول) 2008.

وذكر المؤرخ المصري إبراهيم عناني أن أول مدفع خرجت منه قذيفة للإفطار، كانت من نوعية مدافع “كروب”، ويزن ما يقرب من نصف طن، وهو ما ينطبق على المدفع الذي يوجد بمتحف المقتنيات الفنية، الذي يتخذ من قصر الأميرة فاطمة إسماعيل مكانًا له.

وأفاد الباحث الأثري المصري صلاح الناظر أنه في منتصف القرن التاسع عشر، وتحديداً في عهد الوالي عباس حلمي الأول عام 1853، كان يطلق مدفعان للإفطار في القاهرة، الأول من القلعة، والثاني من سراي عباس باشا الأول بالعباسية.

وبدأت الفكرة تنتشر في أقطار الشام أولاً، لا سيما في القدس ودمشق، وسواهما، ثم إلى بغداد في أواخر القرن التاسع عشر، وبعدها انتقل تقليد مدفع رمضان إلى مدينة الكويت في عام 1907، ثم انتقل إلى أقطار الخليج كافة، واليمن وحتى دول غرب أفريقيا، مثل تشاد والنيجر ومالي، ودول شرق آسيا، حيث بدأ مدفع الإفطار دويّه في إندونيسيا عام 1944.

وما تزال بعض البلدان تحتفظ بالمدفع كجزء من الأجواء الطقوسية، لأن الناس أضحت تضبط صيامها وإفطارها وقيامها على منتجات التكنولوجيا، فدوى ذلك الدويّ، رغم أن الناس في لاوعيهم يقولون حينما يفطرون: “لقد ضرب المدفع”!

ويحتفظ بصداقة المدفع كثيرون، من بينهم المصري حسين الذي يروي لصحيفة “المصراوي” ذكرياته مع مدفع الإفطار الذي كان يعمل على إطلاقهبقلعة محمد علي لمدة خمسة عشر عاماً.

يشرح العم حسين كيفية عمل المدفع الذي يوجد فيه من جهة الشمال “ترباس” يتم فتحه ووضع البارود السلطاني “الفشنك” به، ثم تُثقب العبوة السلطانية تلك بسيخ من النحاس، ويوضع مكانها الفتيل، ثم نقوم بفرد السلك إلى سالب وموجب بطول 7 أمتار، ويقوم الرامي بالوقوف إلى شمال المدفع، ويقوم بتلميس الطرفين “سالب وموجب ” في البطارية الكهربائية، فينطلق المدفع، ويخرج منه 3 أمتار من اللهب ومدى الدخان يصل إلى عشرة أمتار.

وتسعى بلدان إلى إعادة إحياء تقليد مدفع رمضان، ليظل شاهداً على لحظة تاريخية من ذاكرة البشر، لذا راحت إدارة مركز جامع الشيخ زايد الكبير في أبوظبي بدولة الإمارات تستحضر تلك الطقوس الرمضانية العريقة.

وشهد العام الماضي إعادة مدفع رمضان إلى إحدى ساحات الجامع بمبادرة مع وحدات المساعدة التابعة للقيادة العامة للقوات المسلحة، التي تشرف على إطلاق مدافع رمضان في مناطق عديدة بإمارة أبوظبي، ما يمكّن الناس، وفق صحيفة “البيان” من الاستمتاع بمشاهدة حية لعملية إطلاق مدفع رمضان، بدلاً من مشاهدته عبر شاشات التلفاز، أو سماعه عبر الراديو. وشهدت الليلة الأولى إطلاق ثلاث طلقات إيذاناً ببدء شهر رمضان، وحلول طقوسه، واستعادة أزمنته العذبة. (ذوات)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
%d مدونون معجبون بهذه: