مقالات وآراء

صناعة الأوهام فى رواية «نجع بريطانيا العظمى»

د. أماني فؤاد
تأخذ رواية «نجع بريطانيا العظمى» – للكاتب والروائى: «حسام العادلى» Hosam El Adly – على عاتقها تعرية كل النوازع الإنسانية لأبطالها، سواء كانت الشخصيات مصرية أو غربية؛ حيث المشترَك الإنسانى الأوسع، ولذا تأتى صياغة الروائى لتراكيب السرد جريئة بلا تورية، وكأنه يكحت عن الذات الإنسانية كلَّ طبقة يمكن أن تخفى تحتها أطماع البشر الداخلية، وهو ما يجعل أيضًا بنية الشخوص صاخبة ومشتعلة كأنهم كائنات بدائية دون تحضُّر، أهم ما يحركهم الغرائز والشهوات والأطماع، شهوة الجنس والزعامات، شهوة الامتلاك والتميز، شهوة السيادة والرغبة فى السيطرة والقتل؛ فتنهار – من خلال صدمة دلالات السرد – الأسوار بين المعلَن والخفى، وتتكسر الأسلاك الشائكة؛ فكل الأحداث التى يأتى بها الأبطال تحت أضواء السرد، والتى تكشف دوافعهم الحقيقية، فاضحة. كما تُبيِّن سردية النَّص كيف تتخلَّق الأوهام والخرافات من خلال خطط ينفذها القائمون على السلطة، بحيث تنطلى على جموع البسطاء، فالسلطة – على درجاتها – تختلق أيقوناتٍ دينيةً، وأولياءَ وخطابات لتوظِّفهم؛ لتحقيق مآربها والسيطرة على الجموع.
ويتبدَّى هذا على أحد المستويات. المستوى الآخَر فى بنية شخصيات النَّص: التناقضات التى تتشابك داخل الشخصية؛ لتضعَها تحت ضغط الحيرة والاضطراب فيما يتعلق بمشاعرها تجاه الآخَرين، فالصاغ (أنور صديق) معذَّب بين كراهيته للإنجليز المحتلين لأرضه، الذين يتعالون على المصريين ويرونهم أجلافًا، وبين عشقه لـ(كارمن) الإنجليزية ابنة (هاريس)، ورَفْض أمه الفلاحة المصرية الأبية لها.. تناقُض آخَر يقع فيه (هاريس) الإنجليزى: بين كراهيته وغيرته على (مارى) زوجته، التى تعشق الفرنسى «لابان» وتجاهر بعلاقتها به، وبين حُبِّه وإعجابه بها، فهو رغم زواجه منها وقدرته على تحديد إقامتها فى الكامب الإنجليزى الذى أقيم فى النجع؛ إلا أنه يظل ابن الخادمة التى كانت تشتغل بقَصْر اللورد والد مارى. كما يشكِّل (سيد) العمدة و(هاريس) ضابط الكامب منذ البداية وجهين لطبيعة واحدة، ورغم انسحاق العمدة أمام هاريس، وطاعته التامة له؛ إلا أن العلاقة تقترب أكثر من صداقة الشخصيات المتوافقة الرؤية والطبيعة.
ويوظِّف الكاتب الجنسَ على عدة مستويات؛ لبيان الصراع العِرقى بين المصريين والإنجليز، تجسِّده العلاقة بين أنور صِدِّيق وكارمن، حسانين وكارمن، هاريس وحكمت.. والصراع الطبقى فى العلاقة بين (زين) حفيد العمدة و(فاطمة) ابنة الأجير قبل الثورة.. الجنس الذى يؤجج الصراع أيضا بين المطاريد بعضهم وبعض.
وتظل المرأة – فى النَّص – الحلقة الأضعف مهما عَلَت الثقافة والطبقة الاجتماعية، ومهما اختلف العِرق؛ التفاوتات تأتى فقط من سمات الطبيعة الشخصية للنساء.
ويتعمد الروائى إحداث صدمة للقارئ فى وصْف الجسد الأنثوى، حيث يستخدم المفردات التى تجسد الفطرة فى بيان الغرائز دون رمز أو كنايات، وهو ما يتسق مع شخصيات النَّص الرئيسة، ومستوى ثقافتها وتحضُّرها، مثل طريقة رؤية زين لفاطمة، ومراحل علاقتهما حتى حمْلها لجنين منه.
تبدأ أحداث الرواية عام 1956، انطلاقًا من سَفَر (زين)، حفيد العمدة الكبير (السيد) إلى عمه (حسانين) فى القاهرة؛ لشراء مصنع الخواجة الإنجليزى (هاريس)، ثم يعود الحكى نصف قرن إلى الوراء، فى سرْدٍ للتاريخ الحديث لمصر فى عهد الاحتلال الإنجليزى، ورغبتهم فى السيطرة على عموم القُطر المصرى ونهْب خيراته وآثاره، واستخدام رجاله بالسخرة لتنفيذ مآربهم، ثم قيام ثورة يوليو 52. تتوالى الأحداث على نجع السعداوية بطريقة مشوقة، حيث يرصد السارد العليم سيطرة (السيد) على المنطقة بعد انتصاره على المطاريد الذين كانوا ينهبون القرى والنجوع ويهزأون بقوى الأمن هناك، إلى وصوله للعُمودية وسيطرته عليها، ثم انسحاقه التام أمام (هاريس) الممثل لسلطة الاحتلال الإنجليزى، فى كشْفٍ لسمات شريحة من الشخصية المصرية الانتهازية الوصولية، تتوطد العلاقة بينهما لدرجة أن يقتل العمدة: السيدُ، عشيقَ زوجة هاريس: لابانَ السفير الفرنسى، ويقطع رأسه ويدفنه فى مقام على أطراف الكامب، على أنه رأس الولى الشيخ الطشطوشى، بعد أن يعلن العمدة موت الطشطوشى فى صفقة اتفقا عليها، ثم يسند لـ«حِكمت» الغازية قتْل مارى: زوجة هاريس الإنجليزية، لتعيش معه عشيقةً، ولترعى أيضا طفلتَه كارمن.
بعد قيام ثورة يوليو ورحيل الإنجليز؛ تتغير أحوال الفلاحين ويتمردون على سطوة السعداوية، خاصة فى وجود العمدة حسن الضعيف، لهروب حسانين ابن السيد القوى، الذى كان مؤهَّلا لأخْذ منصب أبيه فى العُمودية بعد أن توفى، هرب إلى القاهرة لقتله الشيخ (أبوالجود) وقت إقامة سرادق عزاء العمدة؛ لقراءته واختياره للآيات التى تُبرِز ظُلم العمدة وعدوانه على الفلاحين واستغلالهم، وعلاقاته النفعية سواء مع الإنجليز أو القائمين على الأمن أو الباشا.. ثم استقراره بالقاهرة، واشتغاله بوكالة الخضراوات والفواكه، وعلاقاته واستقراره بالمدينة، وتغيُّر رؤيته وملامح شخصيته عندما اعترك المدينة وعوالمها: الأكثر غِنى وعلاقات.
ويعرج الروائى – طوال السرد – على الظواهر الاجتماعية فى المجتمع المصرى؛ مثل صناعة الخرافات، ومظاهر الموالد، وخاصة مولد الشيخ الطشطوشى، الذى نعرف – مع تقدُّم السرد – أنه أحد المطاريد الخارجين على القانون، وأنه صناعة كاملة من العمدة السيد، حيث تتحالف السلطة السياسية مع رمز دينى مصنوع لتوظيفه فى تحقيق مصالحها وإرادتها، والسيطرة على الجموع، فالحِسُّ الشعبى يميل لوجود أولياء لهم بعض الكرامات مثل الأنبياء، حيث طبيعة المصريين وتفضيلهم لوجود مجسَّد نابض يحمل ويقرِّب المعانى المجردة.
لماذا عَنْوَن الكاتب الرواية بـ«نجع بريطانيا العظمى»؟.. يُعد هذا النَّص سيرة للمكان، وعرْضًا لمراحل متتابعةٍ من تاريخه، ويتسع السرد فى نجع السعداوية ليشعر المتلقى أنه رمز لمصر، التى تحتلها بريطانيا وتنظر بتعالٍ لأهلها وتسيطر على حكامها وتهينهم وتستخدمهم لأهدافها. وأحسب أيضا أن الكاتب أراد أن يقول إن السلطة – مهما اختلفت أشكالها: محلية مجسَّدة فى العمدة السيد، أو دولية مجسَّدة فى الإنجليزى هاريس – تظَل ممارساتها واحدة، كما أن البشر لا يختلفون إلا طفيفا فى خطوب وأحداث حياتهم، فمهما اختلفت هُوَيَّاتهم الشرقية أو الغربية؛ تظَل دوافعهم واحدة: الحب والكراهية، الغيرة والرغبة فى الاستحواذ، الوطنية أو الانسحاق.
انداحت الأعراق بين الجميع فى النجع؛ فـ«لابان» الفرنسى ذبحه العمدة سيد المصرى انتقاما لخيانته لهاريس الإنجليزى، وقطَّعه بالفأس، ودُفن على أنه الولى الشيخ الطشطوشى، الذى أصله من المطاريد ويُدعى عبدالنبى، ويصبح المقام – الذى يتبارك به الناس – قائمًا على جرائم وأوهام مضلِّلة.
فى الكامب الإنجليزى المقام على أرض النجع، تضيع ملامح المكان النقى، ويصبح قابلا لهُوَيَّة واحدة، الهُوَيَّة الإنسانية بكل غرائزها وجرائمها، الإنسان المصرى أو الإنجليزى أو الفرنسى.. التخوم واحدة مهما كانت التباينات.
وتنتهى الرواية بحدوث فيضان يُغرق النجع، لكن الأهالى يقفون أمام المقام؛ لخشيتهم أن يجرفه النيل ويتهدم، كأننا نظل نحمى الأوهام التى خلقَتْها السلطة السياسية وندافع عنها دون أن نتكشف معطيات الواقع، ليتكوَّن وعى مغاير ينقذ الجموع من الاستلاب بكل أنواعه.
وتبقى رواية «نجع بريطانيا العظمى» إحدى حلقات تناول السرد، لتعقّد العلاقة مع الآخر الغربى بكل استعلائه وانتهازيته، مقاومة تتشابك محاورها وتدعو للحيرة، حلقة ضمن نصوص توفيق الحكيم وطه حسين والطيب صالح.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى