مقالات وآراء

الاستقرار الاجتماعي حماية للوطن

يُشير الاستقرار أو التوازن الاجتماعي إلى نوع من التساند بين مجموعة ظواهر اجتماعية مترابطة. مثل هذا التساند قد يكون ظاهراً أو كامناً، وقد يكون دينامياً (متجدداً) أو استاتيكياً (ثابتاً).

من هنا يجب تفعيل دور المؤسسات البحثية الدينية، لتواكب متطلبات الدول في إطار الثوابت والمبادئ الإسلامية التي تهدف إلى تيسير أمور المعيشة لأبناء المجتمع، ليتعايشوا مع الآخر داخل الوطن وخارجه في أمن وسلام، وذلك ضمن خطط مواجهة الجماعات المتطرفة، وأيضاً في إطار الحفاظ على الدول.

أن آفة التطرف التي تعد المدخل الرئيسي للإرهاب، تحتاج، على سبيل المثال، إلى جهود العديد من المؤسسات لمواجهتها، ولذلك يجب أن تهتم أبحاث الجامعات بإجراء دراسات عن التطرف، والتعرف إلى أسبابه وتفنيد الادعاءات الكاذبة المضللة وشرح الآيات والأحاديث النبوية التي يعتمد عليها المتطرفون، مع بيان الناسخ والمنسوخ من الآيات القرآنية، وتقديم أسباب النزول وتوضيح السياقات النصية والتاريخية والجغرافية لبعض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وذلك إذا اقتضى الأمر الاستعانة بها في شرح الآيات والأحاديث.

مع وجوب تقديم الآيات القرآنية ذات الحكم العام أو المقيد، وتوضيح معنى الشريعة الإسلامية التي تشمل العقائد والعبادات وأحكام الأسرة والمعاملات والعقوبات، وعدم اختزال الشريعة، هذا الصرح العظيم، في بعض الأحكام أو القضايا دون البعض، وينبغي التواصل مع العامة، وذلك من خلال وسائل الإعلام والمسجد بأسلوب سهل مع تبسيط الأمور على ضوء مبادئ وروح الشريعة الإسلامية ومقاصدها.

حظي هذا المصطلح بالاهتمام في التحليل الاجتماعي. فقد اهتمت النظرية الوظيفية بتحقيق الاستقرار والتوازن داخل المجتمع. وظهر الاتجاه المحافظ Conservative في علم الاجتماع، الذي يركّز على دراسة العوامل التي تساعد أو تدعم الواقع الاجتماعي القائم بمكوناته الثقافية والسياسية، بوصف أن نُظُم المجتمع المختلفة ـ الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والتربوية والثقافية ـ تشكل البناء الاجتماعي، الذي يشبع احتياجات الأفراد. وبقدر ما تكون هذه النظم قادرة على أداء وظائفها من خلال البيئة الاجتماعية، التي يسودها التواءم والتساند، تكون قدرة المجتمع على البقاء.

ظهرت جذور هذا المنظور في فلسفة “أوجست كونت” الوضعية، عندما ربط بين قيام الثورة الاجتماعية وإلغاء الملكية وتأسيس الجمهورية في القرن السابع عشر، وشيوع عدم الاستقرار الاجتماعي والسياسي، وظهور أنواع شتى من المشكلات الاجتماعية. يرى “كونت” ضرورة إعادة القانون والنظام مرة أخرى إلى المجتمع، بإصلاح المجتمع ومعالجة المشكلات التي يواجهها. ولكي يوضح نظريته في الإصلاح الاجتماعي، شرح بنية المجتمع وتركيبه الذي تحتوي على جانبين، جانب استاتيكي Static (مستقر وثابت) يتشكل من مجموعة النظم والمؤسسات، وجانب ديناميكي (متغير ومتجدد) يشير إلى طرق التفكير والثقافة التي تتغير وتتبدل مع الزمن، والتي لها تأثيرها المباشر على المجتمعات.

أشار “سوروكين” في كتاب “الديناميات الاجتماعية والثقافية”، إلى خمسة استخدامات لمصطلح الاستقرار أو التوازن الاجتماعي:

1. حالة استقرار الظواهر الاجتماعية، مثل المحافظة على الأوضاع القائمة في النسق السياسي.

2. التوازن المؤقت بين الظواهر الاجتماعية.

3. التساند المتبادل بين القوى الاجتماعية.

4. حالة التوافق والتكيف والانسجام بين الظواهر الاجتماعية، مثل إشباع الحاجات الشخصية داخل النظام العام.

5. اتجاه النسق الاجتماعي إلى استعادة حالته السابقة.

وقد قدم “باريتو” مفهوماً لتوازن النسق واستقراره بوصفه يشير إلى قدرة النسق على الاحتفاظ بحالته، إذا ما تعرض لتعديلات أو تغييرات. فهناك تساند متبادل بين عناصر النسق الاجتماعي، بحيث أن أي تغير قد يطرأ على عنصر معين سوف تصاحبه تغيرات في العناصر الأخرى.

ومن أجل تحقيق الجماعة لبقائها واستقرارها واستمرارها داخل المجتمع، يوجد المجتمع بعض النظم الاجتماعية، وتُسمى النظم الرئيسية أو الأساسية. فمهما اختلفت طبيعة المجتمعات وأسس قيامها وظروف حياتها أو مراحل تطورها، لابد أن تضع نظاماً محدداً لإنجاب الأطفال وإعدادهم (تنشئتهم اجتماعياً)، وتنظيم العلاقة بين الرجل والمرأة، تلك هي الأسرة كنظام اجتماعي. ولابد لكل جماعة أن تعمل لكي تنتج الأساسيات اللازمة لإعاشتها، كما يجب أن ينظّم المجتمع لأفراده أساليب الإنتاج وتوزيع العائد من هذا الإنتاج والاستهلاك، وذلك هو النظام الاقتصادي.

 وكل مجتمع إنساني لمس أفراده منذ فجر تجربتهم الاجتماعية الحاجة إلى التفكير فيما وراء الطبيعة، وهذا ما يُسمى النظام الديني. كذلك يكون النظام السياسي ملازماً للنظام الاجتماعي، فلا مجتمع بلا سياسة، سواء في الماضي أو الحاضر أو المستقبل. تلك هي النظم التي لا يخلو منها مجتمع، والتي تكون في حالة من التوازن والتساند المتبادل، وتظل السِّمة المشتركة بينها جميعاً أنها سريعة التغير.

ويظل الأساس الذي يقوم عليه الاجتماع الإنساني، وفقاً للنموذج الوظيفي، هو اتفاق أعضاء المجتمع، أي الإجماع، بمعنى أنهم يتفقون ـ بوجه عام ـ على القيم والمعايير نفسها والاعتماد المتبادل نتيجة للحياة الاجتماعية المشتركة، لتحقيق الاستقرار والتوازن الاجتماعي. وفي إطار ذلك، فإن النظرية الاجتماعية الحديثة (الوظيفية) تميل إلى النظر إلى المجتمع بوصفه توازناً دينامياً مستقراً يمتلك آليات إرجاعية في بنائه، تُعيد المجتمع إلى حالة استقراره.

بناءً على ما سبق، فإن الاستقرار الاجتماعي يعني استمرار وجود النماذج والظواهر الاجتماعية والثقافية في المجتمع ـ المحلي أو الكبير ـ دون تعرضها لتغير فجائي أو جذري. وهذا لا يعني بالضرورة وجود حالة من الثبات المطلق تسود المجتمع (لأن المجتمع الثابت ـ إذا افترض وجوده ـ يكون مستقراً). أي أن المجتمع الذي تطرأ عليه تغيرات تدريجية وبطيئة وكافية لإعادة التوافق دون أن تؤدي إلى اضطراب أو تفكك، يكون مجتمعاً مستقراً.

تسعى الجماعات المتطرفة لتجنيد الشباب والسيطرة على عقولهم عبر المتاجرة بالمفاهيم، من خلال التفسيرات الخاطئة للنصوص بهدف نشر أفكارها. وتهدف هذه الجماعات لوضع الدين في مقابل الوطن لإحداث حالة من التشتت، وترسيخ مفاهيم مغلوطة، كأن الدين والوطن نقيضان، لضرب استقرار المجتمعات والتهوين من مكانة الأوطان، التي تعلي نصوص الشريعة الإسلامية منها، بل جعلت حب الأوطان جزءاً من عقيدة المسلم.

والمؤكد أن مواجهة هذه الجماعات تبدأ من تفنيد أكاذيبها ومتاجرتها بالدين، وتصحيح المفاهيم المغلوطة، وبيان أن فقهها يعتمد على فهم خاطئ للنصوص، وشائعات وأكاذيب، وأن هذه الجماعات تهدف لإحداث قطيعة متعمدة بين المواطنين ومؤسسات الدولة، وتهوين إنجازاتها بهدف تفكيكها وضرب استقرارها، فهذه الجماعات ترى أن كل ما يساعد على بناء الدولة يضعف كياناتها، لأنها لا تقوم إلا على أنقاض الدول.

من حق المسلم أن يعرف الفرق بين أحكام الشريعة الإسلامية الثابتة والأحكام الفقهية القابل بعضها للتغيير، طبقاً لأحوال الزمان والمكان، وضرورة محاربة التشدد في الفتوى، فالقرآن يرشدنا إلى التوسط في الأمور وعدم التطرف «وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ» الآية (143) سورة البقرة. وخير الأمور الوسط، لأن التشدد أو التطرف أو التساهل المفرط وعدم الاهتمام ضررهما أكثر من نفعهما على الفرد والمجتمع.

يقع على عاتق علماء الاجتماع دراسة الحالة الاجتماعية للأفراد والمجموعات البشرية، بقصد التعرف إلى المشاكل الاجتماعية التي قد تعد جزءاً من إشكاليات التطرف والإرهاب في شريحة اجتماعية معينة، وأن يضع علماء الاجتماع في حساباتهم عند دراسة إشكالية التطرف مستوى التعليم ووضع الأسرة والعادات والتقاليد، وما يشترك فيه أفراد المجتمع من ثقافة عامة تتمثل في قيم وعادات وتقاليد.

أن الإسلام أقر العادات والتقاليد والعرف ما دامت لا تتعارض مع نصوص القرآن والسنة، وأن بعض ملامح الثقافة في الريف قد تختلف عنها في المدينة، مع عدم تهميش دور الأسرة، فهو ضروري لا غنى عنه مثل دور المدرسة في تكوين المواطن الصالح.

أن دراسة العوامل النفسية في مواجهة التطرف تعد قضية محورية، لأن الطب النفسي يدرس قضية مجتمع أو ظاهرة مجتمعية من زوايا متعددة، وقد يستطيع الطبيب النفسي أن يشخص أمر مجتمع ما، من خلال المرضى الذين يترددون عليه، لأنهم يعانون مشاكل عدة منها: الاجتماعي والنفسي والمالي والصحي والبيئي، لذلك فإن الدراسات التي يعدها الباحثون في الطب النفسي تعتبر ذات أهمية في إعطاء صورة المجتمع وما يعانيه من مشاكل. ويضيف: هذه الصورة يمكنها مساعدة بعض الباحثين في تحديد بعض أبعاد إشكالية مثل التطرف، وقد ينصح الطبيب النفسي بعض مرضاه ممن لديهم ظروف نفسية بالذهاب إلى المسجد، لأن الأجواء الروحانية مع سماع الخطبة أو درس ديني يحث على التضامن والتكافل الاجتماعي، فتأليف القلوب نعمة من نعم الله في الإسلام، قال تعالي «وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ»الآية (103) سورة آل عمران، ولا شك في أن الاتحاد والود في مجتمع ما يكون سر قوته، في حين أن التمزق والعداوة أهم عوامل انهيار أي مجتمع من داخله.

أن الوضع الاقتصادي المتدني وانتشار البطالة والأمية تؤدي إلى إيجاد البيئة الخصبة للتطرف والإرهاب. ويقول: للنهوض بمجتمع ما اقتصادياً يجب الاعتماد على الأبحاث الاقتصادية المستندة إلى النظريات العلمية الاقتصادية، والتي تضع في حسبانها الموارد المتاحة والإمكانات البشرية، وكيفية تأهيلها والتعاون مع الآخر والانفتاح عليه، قال الله سبحانه وتعالي في القرآن الكريم «وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ» الآية (2) سورة المائدة، وهذه الآية الكريمة تأمر بالتعاون على الخير وعلى كل ما فيه مصلحة عامة، كما أن ثمرة التعاون دائماً مفيدة.

المشروعات الاقتصادية التي توفر فرص عمل تساعد، على حل مشكلة البطالة من أهم أسباب سبل مواجهة الجماعات المتطرفة، لأن البطالة تعد أحد أسباب التطرف والوقوع في براثن الإرهابيين، الذين يوهمون الشباب الذي لا يجد فرصة عمل، بأنه سيجد ضالته في محاربة المجتمع، من خلال انضمامه للتنظيمات الإرهابية التي تجد لها بيئة خصبة في المناطق الفقيرة، لأن فقدان الخدمات الضرورية فيها يؤدي إلى تحويلها إلى بيئة خصبة، للتطرف ويعد قنابل موقوتة، قد تنفجر في أية لحظة في وجه المجتمع.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى