أخبارمقالات وآراء

“مدينةٌ الطابِقَين”

تكتب د. أماني فؤاد..
بدَت المدينة – التي تشهد لقاءهما – بطابقَين، طابق فوق الأرض، والآخَر تحت ‏قِشْرتها، ليس هناك مصاعد، أو سلَّم طويل، المدهش أن معظم سُكانها لا يشعرون ‏بعَناء، يدلِفون بينهما بيُسر، يصعدون ويهبطون دون أن تتقطَّع أنفاسهم، في الطابقَين ‏يبدِّل الناس ملابسهم بين الثانية والأخرى، دون عناء.‏
‏** حدَّثتْها صديقتها وهي تبكي، سافَر زوجها اليوم إلى انجلترا وتركهما، راسَلها وهو ‏على الطائرة، كتَب إنه لن يحتمل، فمنذ أنجبت ابنهما بـ (متلازمة داون)؛ وهو يشعر أن ‏حياتهما معًا باتت معاقة، يُحِلُّها من الزواج، ويتمنَّى لها القوة لتحمُّل تلك الكارثة. ‏
قالت: إنه ترَك مظروفًا به بعض الأموال التي تبقَّت معه. سألتها حديثة الأمومة: هل ‏ترضع ابنها كما الأطفال الطبيعيين؟ هل لها أن تُعرَّف معنى المسئولية؟
‏** احتضنها الطبيب النفسي طويلًا، بكَت حين سألها: أتلك آثار ضربِه؟ بدأت يداه ‏ترتفع فوق ظهرها ثم تهبط، ابتعدت، نظرت في عينَيه، سألته: في أيِّ طابق من المدينة ‏نحن الآن؟ ‏
لم يُجِب، أفلتها من بين ذراعَيه بهدوء، ثم أطالت ملامحه التقلُّب على صفحة وجْهِها ‏وشفتَيها. حدَّثها في نفْس الجلسة حول العلاقات التي لا معنى لها سوى لحظتها.‏
‏** هاتفته قائلة: لماذا لم تترك مبلغًا من النقود قبل أن تغادر؟ لعلك حينها تكمل المشهد ‏الذي ألِفْناه على شاشات السينما. صمَت، الأرجح أنه لم يفهم ماذا تقصد، أو كان قد ‏امتلأ بالوقت معها؛ فلا يريد عِراكًا.‏
لماذا تشعر حين يغادرها كأنها بائعة هوى، ليست حبيبته وامرأته كما يقول!؟ ‏
ينقطع ما بينهما بمجرد أن تخطو قدماه خارجا، كأنه لا يعرفها إلا نِتَفًا، احتارت كيف ‏يجمع بين عشقها، والغياب طويلًا على هذا النحو!؟ ‏
تهفو روحها إليه كلما كانا معًا؛ لكنها الساعات، تعدو كأنها في مارثون أُقيم خصيصًا ‏لحرمانها، يفضِّل فنجان قهوته – دون سكَّر – من يدَيها، يهمس في أُذنَيها – وهي في ‏أحضانه – بأن وجْهَها أجملُ ما رَأَى، يغرق في سِحر عينَيها اللتين تأسرانه، يقول إن ‏سِحرًا آخَرَ في روحها – لم يحدِّدْه – يوقِعُه فيها؛ فيحكي، يقُصُّ عليها طفولته البعيدة ‏وصباه، حبيباته السابقات، يتمنَّى لو أنهما تقابلا في أول العمر. دون إنذار تتعانق ‏وريقاتُ الورد، التي تنثرها بينهما الرياح؛ فتتطاير الدقائق، وتنفتح الأبواب؛ ويغادرها.‏
تسأله: ألا تُحبني بالقدْر الذي يجعل تواصُلَنا مستمرًا؟ يجيبها: بأن لقاءهما تالٍ على ‏وجود حياة سابقة لا تفتقر لجمالها، فلا ذنب لأولاده، أو زوجته، تواصُلَنا الدائم سيوقعني ‏في مأزق الاختيار، يضيف: ابتعادي لا يعني فتورًا عاطفيًّا، أنتِ بقلبي.‏
في غيابه، تجِفُّ روحُها، لماذا ارتضت أن تكون حبيبته في الطابق السُّفلي. ‏
‏ ودَّت لو سألته: لماذا لا يُدرك أن كل الاتفاقات ليست صكوكًا غير قابلة للتعديل، لا ‏تجده، اليوم أرادت أن تبكي في صدره، أن يمسح على شَعرها، ودَّت لو حَكَت له: إن ‏صديقتها الأقرب ماتت، انتشر الخبيث في جسدها، لم تقْوَ على رؤيتها وهي تُدفن.‏
تشعر أنها اللحظية، اختار أن يبقى على مسافة منها. كانت كلَّما شرَعَت تتحدث بعيدًا ‏عمَّا يريد؛ يُمسك بهاتفه، يقول: أستطيع أن أُنصت إليك وأنا أتابع شيئا آخر، تصمت ‏مجرد أن تشعر بفتوره؛ تموت الحروف في فمها، تتساقط على ملابسه، وتجِفُّ سريعًا.‏
‏** خلعته، كانا قد التقيا حين درَّس لها كورسًا في فاعلية سَنِّ القوانين، وآليات تغيير ‏ثقافة المجتمعات، التقيا – صُدفة مَرَّة أخرى – في سويسرا، كانت تقدِّم بحْثَها عن حق ‏المرأة في تولِّي القضاء في الشريعة الإسلامية، رأتْ وجْهَه هناك يحتل سطْح البحيرة، ‏ويحرِّك موجَها، ينافس خُضرة الجبال ويزيحها، تزوَّجا، بعد شهور خشيَت أن تُنجِب، ‏منَعها مَرَّتَين أن تسافر بمفردها لتجتاز بعض امتحاناتها، صرخ – وهو يصفعها في ‏إحدى المَرَّات – قائلا: طموحاتكِ أطول مني، تأتيني في أحلامي كعقارب الساعة التي ‏تعدو ورائي.‏
‏** لمَحتْه يتمتم ببعض الكلمات؛ فاستوضحَتْه؛ صمَتَ، بدا كأنها سمعته يقول: “شَمَمتُنَّ ‏أنفُسكنَّ واستقوت شوكتكنَّ؛ وهذا نذير شؤم.”‏
لمحت عيناها الجريدة، خبر مطالبة بعض النساء بمحاكمة كل من يقدم خطاب كراهية ‏تجاه النساء وتحريض.‏
حسِبتْه أكثر ذكاء من وقوعه السريع في التناقض، يسكن في قشرته البراقة في الطابق ‏العلوي، في السفلي، يقطن جسده وأفكاره.‏
في أحد الطابقَين، سمعتْ شاعرًا يشدو وهو يعزف على ربابته، لم تستوضح لهجته ‏تمامًا، كان ينوح على امرأة قتَلها أخوها، قتَلها لأنها أحبَّت.‏
تمتلئ السِّلال – التي يُسقطها الطبيب النفسي كل يوم إلى الطابق الذي تحت القشرة – ‏بالنساء، في حديثه على إحدى القنوات الفضائية يستشرف أنَّ سِلالَه حتمًا ستمتلئ قريبًا ‏بالرِّجال. بين الطابقَين يمُر الجميع، رغم الجثث التي في المصاعِد، وعلى جانبَي السلَّم ‏الطويل، المتعرج الدرجات.‏

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى