أخباردين

الليلة التي لا تنام فيها مصر

عيد الغطاس…كل سنة وكل المصريين الطيبن طيبين .. مسيحيين ومسلمين
تاريخيا ولمئات السنين وتحديدا لمدة 1382 سنة كان عيد الغطاس هو العيد الأضخم و الأهم والاكبر احتفاليا في عموم مصر عند كل المصريين ربما اكثر من أي عيد آخر
كان الاحتفال بالغطاس يمتد الي ثلاث أيام، ينتهي بغطسه الغطاس الشهيرة في النيل بعد منتصف الليل!! ليلة الغطاس بعد صلاة قداس اللفان
حيث كانت تضرب الخيام والاسرة والمظلات علي جانبي شط النيل وتمتلا الدور القريبة من النيل بالمحتفلين والاقارب والأصدقاء ويستقل البعض المراكب والزوارق والفلايك حاملين القناديل والفوانيس المضاءة فتكون صفحة النيل مضاءة ومزينة بألاف الأنوار و المشاعل والفوانيس

في هذا العيد وعلى مدار ثلاث الليال كان المصريون يتزينون بالحلي والذهب والملابس الملونة وكانت تقام مأدب الطعام والاكلات من كل صنف ولون وخاصة ما عرف بأكلات الغطاس حيث أطنان القصب والقلقاس والنارنج والليمون المراكبي والبرتقال واليوسفي والسمك البوري 
وكانت تعزف المعازف وتضرب الموسيقي ويغني المصريون ويرقصون ويتسامرون في أضخم احتفالية تقام سنويا علي شط النيل حتي تأتي ليلة عيد الغطاس وبعد العشاء ينزل مئات الاف من المصرين من الدلتا لأسوان بجميعهم رجالا ونساء شيوخا واطفالا في عز برودة طوبة الي نهر النيل وهم يحملون في أيديهم الفوانيس و الفانوس كان عبارة عن شمعة عريضة مزخرفة وملونة يتفنن المصريون في صنعها وزخرفتها لهذا اليوم خصيصا وكان أحيانا يصل السعر الواحدة منها الي 3 دنانير كما ذكر المؤرخ تقي الدين المقريزي في خططه وكانت الأمهات يصنعن لأطفالهن البلابيصا، والبلابيصا تعني بالمصرية القديمة القنديل المضيء وكانت البلابيصا عبارة عن برتقالة او ثمرة يوسفي .. تفرغ من الداخل ويوضع داخلها فتيلة من الدهن ثم تضاء  فيضعها الأطفال علي رؤوس اعواد القصب ويطفون بها القري والنجوع والكفور علي طول مصر وعرضها.!!.. وخاصة في قري الصعيد وقنا ونجادة والاقصر تحديدا وهم يغنون
ليلتك يا بلابيصا ليله هنا وسرور

وفي ليلتك يا بلابيصا حنو العصفور رمز لكثرة الزينة والحنة في هذا اليوم لدرجة ان العصافير يتم حنتها ثم يخرج الجميع من المياه ليلبسوا البياض والحلل الجديدة اعتقادا منهم بان من يغطس في النيل في ليلة الغطاس يحفظ و يكون له الخلاص من الامراض والاسقام طيلة السنة ويكون لبس الكتان الأبيض عند الخروج من المياه رمزا للطهارة والشفاء واستشرافا للخير والصحة وميلاد جديد للنعمة في السنة الجديدة الوليدة القادمة كان جميع المصريون يعشقون الاحتفال بليال الغطاس الثلاثة وبغطسه الغطاس رجالا ونساءا شيوخا واطفالا ومن اشهر من كتب ووصف عيد الغطاس المؤرخ والجغرافي العربي أبو الحسن المسعودي “896 – 957م” في كتابه مروج الذهب الذي عاصر ليلة الغطاس في سنة 330 هجرية ولكن الاروع وصفا كان ما كتبه ورواه المؤرخ العظيم تقي الدين المقريزي في درة كتبه “المواعظ والاعتبار في ذكر الخطط والآثار” عن عيد الغطاس فيقول ( إنه يُعمل بمصر في اليوم الحادي عشر من شهر طوبة، وأصله عند النصارى: أن يحيى بن زكريا عليه السلام، المعروف عندهم بيوحنا المعمدان عمد المسيح، أي غسّله في بحيرة الأردن، وعندما خرج المسيح عليه السلام من الماء، اتصل به الروح القدس، فصار النصارى لذلك يغمسون أولادهم في الماء في هذا اليوم وينزلون فيه بأجمعهم، ولا يكون ذلك إلا في شدة البرد، ويسمّونه يوم الغطاس، وكان له بمصر موسم عظيم للغاية) ولما تولى الإخشيديون الحكم، كان لليلة الغطاس شأن عظيم، وكان الناس “مسلمون ومسيحيون” لا ينامون في هذه الليلة وقد حضر المسعودي سنة 330 هـ، ليلة الغطاس بمصر، والإخشيد محمد بن طفج أمير مصر في قصره، في جزيرة منيل الروضة، وأمر بإقامة الزينة فى تلك الليلة أمام قصره، من جهته الشرقية المطلة على النيل وأوقد ألف مشعل، غير ما أوقد أهل مصر من الاف المشاعل والشموع على جانبي فرع النيل وحضر في تلك الليلة آلاف البشر، من المسلمين والمسيحيين، ومنهم من احتفلوا في الزوارق السابحة في النيل، ومنهم من جعلوا حفلاتهم في البيوت المشرفة على النيل ومنهم من أقاموا الصواوين على الشواطئ مظهرين ما لا يُحصى من المآكل والمشارب والملابس وآلات الذهب والفضة والجواهر، وكانوا يقضون ليلتهم في اللهو والعزف على آلات الطرب، والتحلي بالجواهر الثمينة والزينة.
بعد الإخشيديين آل حكم مصر إلى الفاطميين “969-1171م “، فجعلوا مصر مستقراً لهم، وعطفوا على كل المصريين على اختلاف مذاهبهم، ومنهم الأقباط، فقربوهم إليهم، وجعلوا أعيادهم أعياد رسمية في البلاد، اشترك فيها الخلفاء أنفسهم… كالنيروز والميلاد والغطاس وخميس العهد ( خميس العدس) وكانوا يُخرجون من خزائنهم العطايا، ويوزعونها على رجـال الدولة، لا فرق في ذلك بين مسلم ومسيحي فكان إذا جاء عيد الغطاس يوزعون على الموظفين: الليمون، والقصب، والسمك البوري، وكان ذلك برسوم مقررة لكل شخص، وإذا رأينا إقبال الناس على أكل القصب في هذه الليلة، واعتباره من عادات ورموز العيد فنذكّرهم بأن هذه العادة القديمة أدخلها الفاطميون في رسوم دولتهم وكانت الخيام تُنصب على الشواطئ، ويأتي الخليفة ومعه أُسرته، من قصره بالقاهرة إلى مصر القديمة، وتوقد المشاعل في البر والبحر، وتظهر أشعتها وقد اخترقت كبد السماء لكى تزينها بالأنوار البهية، ثم تُنصب الأسرة لرؤساء النصارى على شاطئ النيل في خيامهم، وتوقد المشاعل، ويجلس الرئيس مع أهله، وبين يديه المغنون ثم يأتي الكهنة والرهبان وبأيديهم الصلبان، ويقيمون قداساً طويلاً يدعي “قداس اللفان” ..يصلون يباركون مياه النيل وذكر بن إياس” أن نهر النيل كان يمتلئ بالمراكب والزوارق، فإذا دخل الليل تُزين المراكب بالقناديل، وتُشعل فيها الشموع، وكذلك على جانب الشواطئ يُشعل أكثر من ألفى مشعل وألف فانوس، وينزل رؤساء القبط في المراكب، ولا يُغلق في تلك الليلة دكان ولا درب ولا سوق، ويغطسون بعد العشاء في بحر النيل، النصارى مع المسلمين سوياً، ويزعمون أن من يغطس فى تلك الليلة يأمن من الضعف في تلك السنة
وظل المصريون جميعا يحتفلون كل عام بهذا العيد الي ان ابطل تلك العادة المماليك الشراكسة اللذين تولوا حكم مصر عام1382م
كل عيد غطاس وكل المصريين الطيبين طيبين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى