أخبارمقالات وآراء

بليغ حمدي وشجن الموسيقى

في الأول من ديسمبر ١٩٦٠ غنت السيدة ام كلثوم “حب ايه” من ألحان بليغ حمدي بعد سنوات طويلة من الاحتكار للسنباطي وزكريا احمد والقصبجي ولان هذا التاريخ عزيز علي لاني من مواليد الاول من ديسمبر فقد لفت نظري… ولم يكن اللقاء محض صدفة وانما كان الترتيب من الفنان محمد فوزي الذي امن بعمق موهبة بليغ بفراسته المعهودة فقد كان صاحب “مصر فون” التي تم تاميمها ومات بعدها كمدا…. وبالتحديد في منزل الطبيب الاشهر في زمانه وهو الدكتور زكي سويدان كان اللقاء وطلبت الست ان تسمعه فجلس أرضا وامسك عوده والذي أتقن العزف عليه وهو في التاسعة من عمره واستهجن بعض الحاضرين جلسته على الارض ولكن ما ان انطلق يشدوا “حبه ايه” اللي انت جاي تقول عليه من كلمات رفيق رحلته عبد الوهاب محمد فاذا بأم كلثوم تجلس أرضا الى جانبه..وبصوت حاني معقولة “دي خناقة” مش اغنية …بس بصراحة انت “جن مصور”ولاشك ان تزكية وجدي الحكيم الذي كان رئيسا للإذاعة كان لها أثر كبير وخاصة بعد ان سألته السيدة ام كلثوم عن الشاب الذي لحن اغنية تخنوه لعبد الحليم حافظ ولايمكن ان نغفل انه في زمن الفن الجميل أن محمد فوزي فضله عن نفسه في لحن انساك بعد ان اوكلت اليه الست تلحينها ولكنه سمع لحن بليغ فاعجب به وطلب من الست ذلك متنازلا عن حلم حياته ..وبرغم ان بليغ لم يكن ذو رصيد كبير فقط اغنية تخنوه و خسارة فراقك ياجارة لحليم ومكسوفة لشادية ومتحبنيش بالشكل دة لفايزة وصغر سنه “٢٩”سنة الا انها طلبت منه الحضور صباحا الى منزلها ولكنه لم يذهب فهو كائن ليلي وظن الموعد مساء.. وفي الخامسة مساءمن اليوم التالي دق جرس تليفونه واذا بالست بتقوله انت مجتش في ميعادك ليه فرد متلعثما لسة على الميعاد اربع ساعات قالتله كان ميعادك التاسعة صباحا وليس مساء فاعتذر بشدة وذهب في اليوم التالي … وكانت البداية التي قربت ام كلثوم من الشباب كما قال عمار الشريعي فقد سبق الموسيقار عبد الوهاب اليها حيث كان لقاء السحاب عام ١٩٦٤ في انت عمري…ولاشك ان بليغ قد جسد قصة الحب مع مرسي جميل عزيز في الثلاثية الرائعة والتي بدأت بسيرة الحب وكيف تكون البداية مابين الخوف والرهبة الى ميول جامح ورغبة..ومقدمة موسيقية تلهب مشاعر المحبين وتدغدغ خلجات قلوب العاشقين وطول عمري بخاف مالحب وسيرة الحب ..ثم تنتقل الى تجربة الحب التي عاشها في الف ليلة وليلة تجسدت في ليلة عمر شرب نخب كأسها واكتحل بليلها ومن فرط حلاوة مذاقها تمنى الا يأتي صباحها …ومن ناموس الاقدار ان مابعد الاكتمال الا النقصان فالقمر يعود بدرا بعد كماله..وهكذا قصص العاشقين قد تنتهي بألم وشجن وحسرة فكانت “فات الميعاد”وبقينا بعاد والنار بقت دخان ورماد… ولم يترك بليغ عقول وقلوب شباب عصره وكل العصور دون لوعة فابدع بعيد عنك ثم الحب كله واذا اردت ان تتطلع الى نبع موسيقي منفجر فانظر الى ألحان بليغ..فالبركان يهدر وطنية ويهدد وجدي الحكيم من على سور الاذاعة والتليفزيون بعمل محضر لمنعه من أداء دوره الوطني حيث كانت الحراسة حول المبنى مشددة بسبب الحرب في ٦ اكتوبر ١٩٧٣ فيستجيب الحكيم ويدخل بليغ ويكتب تعهدا بأنه سوف يتحمل كافة أجور الموسيقين لكل اعماله لدعم المعركة حيث لم تكن هناك ميزانية لذلك..فتنطلق رائعة بسم الله الله اكبر بسم الله التي هزت وجدان الشعب العربي كله من الخليج الى المحيط وتتلوها على الربابة لوردة حبيبة عمره وعاش اللي قال لحليم وعبرنا الهزيمة…ومن يصدق انه هو نفسه الذي جسد نكسة ١٩٦٧ في كلمات الابنودي في “عدى النهار والمغربية جاية تتخفى ورا ضل الشجر” ومن المدهش ان هذا الرجل الذي عاش حياة ماجنة اهدى الينا اروع لحن للشيخ النقشبندي والذي اصبح علامة فارقة في التواشيح الدينية” مولاي”الذي اصبح ايقونة شهر رمضان..طالب الحقوق الذي لم يكمل دراسته ابن استاذ الفيزياء في كلية العلوم وشقيق د.مرسي سعد الدين اول ملحق ثقافي لمصر في لندن واول رئيس لهيئة الاستعلامات..وحبيب وزوج وردة الجزائرية التي وهب له روحه وقلبه وكيانه من العيون السود وبلاش تفارق وحكايتي مع الزمان والشاعر والصديق محمد حمزة الذي قرأ الشجن الذي يعيش في قلب بليغ فكتب أبسط الكلمات ولكنها السهل الممتنع لتنساب على لسان العندليب العليل وحبيب السندريلا المعذب فيمتزج ألمه بصدى ألحان البليغ من” زي الهوا” الى حاول تفتكرني بكل مافيها من لوعة الفراق لو مريت في طريق مشينا مرة فيه الى “اي دمعة حزن لا” وعايشين سنين احلام دايبين في احلى كلام..فمداح القمر وعيني ياعيني عيني عليكي وكل القلوب بتدوب بتدوب حاوليكي..ويؤلف ويلحن لميادة الحناوي انا بعشقك والحب اللي كان..ولم يترك عشاق الفن الشعبي فشارك الخال الابنودي ومحمد رشدي نجاح اجمل الاغاني الشعبية”عدوية” التي هزت الكيان الفني وعروش سلاطين الفن…وتسلل في في جنح الليل لينساب من جنبات فيض نهر عطاءه رقة وعذوبة شادية وياحبيتي يامصر والتي تبكيك حتى لو كنت اسدا هصورا عندما تغيب عن حضن الوطن..وخلاص مسافر وقولوا لعين الشمس…ودفئ صوت نجاة في سكة العاشقين وفي وسط الطريق وموكب حب ودفى للقلب والعاشقة صباح والحجار وهاني شاكر ومستنياك عزيزة جلال ..كل ما ابدعه هذا الرجل البليغ استحق التبليغ فعندما تعيش بين جنبات ألحانه كانما تسكن في حضن اجفانه التي شاء لها القدر ان تغلق وهو خارج الوطن الذي احبه فمات مريضا غريبا ..بعد ان ترك لنا ارثا من شجن الموسيقى التي تحرك أوتار القلوب وتسموا بالارواح وتقدح زناد خلايا وتلافيف العقول ليستمر لحن الحياة .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى