الأطفال في الدولة العثمانية: التاريخ المنسي عربياً

على الرغم من تطور حقل دراسات تاريخ الطفولة في العالم، إلا أنه غالباً ما ركز مؤرخو هذا الحقل على أوروبا وأمريكا الشمالية في المقام الأول؛ غير أنه في السنوات الأخيرة بدأ عدد متزايد من الباحثين، من بينهم مؤرخون أتراك يستكشفون تواريخ الطفولة في طيف واسع من المجتمعات غير الغربية. وقد أظهرت هذه الأعمال تواريخ سرديات متوازية ومتداخلة، لكنها في بعض الأحيان مختلفة جذرياً. ومن المهم أن هذه النصوص تظهر بوضوح أن تعريفاً عاماً للطفولة لا يمكن أن يغطي الحقبة المبكرة الحديثة والعصور الحديثة. ومن بين الأعمال المهمة في هذا السياق كتاب «الأطفال والطفولة في الدولة العثمانية: من القرن الخامس عشر وحتى القرن العشرين»، تحرير فروما زاخس جامعة حيفا وغلاي يلماز جامعة أكدينيز التركية.. يكشف الكتاب أن تاريخ الطفولة والأطفال، ليس إطاراً تبسيطياً نشأ في الغرب ثم أثر في بقية أنحاء العالم، بل هو أيضاً خاص بالأراضي العثمانية، بل متنوع داخل المجتمع العثماني نفسه.
كانت الإمبراطورية العثمانية كياناً متعدد الثقافات والطوائف، يغطي مساحة جغرافية شاسعة تضمنت طيفاً واسعاً من المجتمعات والثقافات، ويعكس هذا الكتاب هذا، من خلال استكشاف تطور المواقف الاجتماعية والثقافية والسياسية تجاه الأطفال والطفولة، على مدى خمسة قرون، في مناطق شديدة الاختلاف من الإمبراطورية العثمانية، عبر تناول الأطفال المسيحيين واليهود والمسلمين في رومانيا وبلغاريا وروم إيلي واليونان، والبوسنة والقرم وسوريا، وفلسطين، وإسطنبول العثمانية. وقد قدم المشاركون الموضوع من زوايا مختلفة، بعضهم حاول استعادة أصوات الأطفال من خلال المذكرات التي دونوها، عندما كبروا عن طفولتهم، بينما خص آخرون المراسيم الحكومية ودفاتر المحاكم الشرعية والتشريعات والنصوص الدينية والكتب المدرسية، من أجل استنتاج المواقف تجاه الأطفال والطفولة، وكذلك من أجل استنباط ممارسات الأطفال وحضورهم في الحياة اليومية.
جوهر النقاش في هذا الكتاب هو، أنه لا يمكن فهم المجتمعات العثمانية فهماً كاملاً من دون دراسة الأطفال والطفولة. فالأطفال لم يكونوا مجرد متلقين سلبيين للبنى الاجتماعية والثقافية والسياسية، بل كانوا أيضاً فاعلين في هذه البنى يساهمون في إنتاجها وإعادة تشكيلها، ولذلك فإن تتبع الطفولة في المجتمعات العثمانية، يعني بالتالي تتبع كيفية تصور المجتمعات لمراحل الحياة، وكيفية صياغة العلاقات بين الأجيال، وكيفية تكوين الهويات الدينية والاجتماعية، وكيفية إنتاج السلطة وتوزيعها داخل الأسرة والمجتمع والدولة.
في العصر الحديث، يبرز الكتاب بعدين رئيسيين في تاريخ الطفولة: الطبيعة الديناميكية للإمبراطورية العثمانية عبر القرون، واستمرار بعض أنماط العصر المبكر في العصر الحديث. لم تقتصر دينامية الإمبراطورية على العصر الحديث، بل تغيرت تجارب الأطفال ومفاهيم الطفولة، بالتوازي مع توسع الإمبراطورية، وإدماج شعوب جديدة، وازدهار أسواق العبيد، ما أثر على مؤسسات مثل الجيش والتعليم والأوقاف. ويعتقد المشاركون في الكتاب، أن دراسة طرق تجنيد الدولة للمراهقين والشباب، تساعد على فهم التحولات داخل مؤسسات مثل الجيش. ففي العصر الحديث، ارتبط تعريف الأطفال كمواطنين مستقبليين، بوضعهم تحت انضباط صارم من مؤسسات مثل، الجيش والمصانع والمدارس الحكومية ودور الأيتام. كان التجنيد العسكري للمراهقين، جزءاً من الخطاب القومي الحديث، لكنه كان موجوداً أيضاً في العصر المبكر مثل، الجيش العثماني والميليشيات وجيش الإنكشارية عبر نظام الدفشيري التجنيد القسري وآليات الرقابة والانضباط والتلقين المبكر.
هذا وقد شهد العصر الحديث تغييرات في التعليم، منها إنشاء نظام مدارس عامة وعلمانية عام 1869، لكنه قوبل بمقاومة مثل المدارس السرية لدى الألبان الذين أرادوا الحفاظ على لغتهم وهو ما يظهر أن النزعة القومية لم تكن مجرد نزعة قومية حديثة، بل كانت متجذرة في تصورات تاريخية عن تعليم الأطفال. يظهر أحد الأبحاث المنشورة في الكتاب، أنه لم تعرف المراهقة كمرحلة مستقلة إلا في القرن التاسع عشر، لكنها كانت موجودة كمفهوم قانوني واجتماعي في العصور السابقة، تحدد غالباً بالنضج الجسدي والعقل وفقاً للقوانين الإسلامية. وغالباً ما كان الزواج المبكر جزءاً من هذه المرحلة، وكان العمر القانوني للزواج مرتبطاً بالبلوغ، وهو أمر شائع بين المسلمين والمسيحيين واليهود.
وبالنسبة للأولاد كان بلوغ سن المراهقة، يعني استعدادهم للانخراط في الحياة العسكرية، أو الحرفية، بينما كان بالنسبة للفتيات، يعني بدء مسؤوليات الزواج والأسرة. كان النضج الجسدي والتمرد يعتبران من المعايير المحددة للمراهقة، ولذلك كانت النساء اليونانيات في الدولة العثمانية، على وعي بأن الصبي البالغ من العمر خمسة عشر عاماً، ينبغي عدم السماح له بدخول حمام النساء العام.
ظل تعريف المراهقة وفئتها العمرية المقابلة غامضاً خلال العصر الحديث المبكر، وقد استمر هذا الغموض ومرونة الفئة العمرية إلى القرن التاسع عشر، كما استمرت القواعد الثقافية والأخلاقية للشريعة الإسلامية إلى العصر الحديث، وشكلت أساس التغيير كما يتضح في أمثلة مختلفة، حيث حددت المحاكم حدود عمرية للجانحين القصر وزواج القاصرات.
الأبوة والطفولة:
أعطي الأطفال في المجتمعات المسيحية واليهودية والمسلمة العثمانية، تعليماً دينياً بشكل رئيسي، وعد ذلك ضرورياً للحفاظ على هذه المجتمعات داخل الهيكل الإمبراطوري. في المقابل توقعوا من الأطفال الالتزام بالقوانين والتقاليد المجتمعية. وكان الهيكل الأبوي جلياً في هيمنة الآباء على حياة أبنائهم، حيث أرسلوا الأولاد خصوصاً في المدن، لتعلم الحرف التي يمارسها آباؤهم، بينما طلب من البنات الالتزام بمدونات السلوك المجتمعية والاستعداد للزواج.
في المقابل، نرى أن عمالة الأطفال واسعة الانتشار، ولذلك فإن أعدادا قليلة منهم حصلت على تعليم مدرسي جيد. في المقابل احتوت بعض المدن العثمانية على عدد من الأطفال العبيد، ويظهر المؤرخ التركي فرات باشا من خلال دراسة عن الأطفال العبيد في القرم، أن هناك عدة أشكال للرق الطفولي، وأن الإساءة الجسدية والجنسية للفتيات من العبيد كانت شائعة، واستمر تطبيق نظام التجنيد القسري الدفشيرمة، الذي تضمن جلب أبناء المسيحيين القاطنين في البلقان والأناضول صغار السن إلى الجيش حتى القرن الثامن عشر.
مع القرن التاسع عشر ظهرت «أبوة الدولة» مع تزايد تدخلها في تنظيم الأسرة من القرن الثامن عشر فصاعداً، من خلال التعليم الإلزامي، وإقامة الملاجئ، والإصلاحيات، ومحاولات حماية الأطفال، وتعزيز الزواج في سن أكبر وتحديد سن المساءلة القانونية للقاصرين، وعلى الرغم من أن الأسر لم تفقد مكانتها ودورها، لكن الدولة أخذت على عاتقها مسؤولية حماية القيم والهياكل الأسرية عبر السيطرة على الأطفال والمراهقين والشبان والعزاب.
من الفصول الممتعة في الكتاب الفصل الخامس، الذي تناولت فيه الباحثة التركية ليلى كايهان إلبرليك الرابط العاطفي بين الأطفال في العصور الحديثة المبكرة وآبائهم من خلال دراسة نص بعنوان «لطفية» وهو عبارة عن نص كتبه الشاعر العثماني سنبلزاده فيهبي لابنه لطف الله عام 1791، حاول من خلاله تقديم النصائح: حول التعليم ـ الأدب مع الكبار ـ ضبط النفس ـ مراقبة اللغة والسلوك ـ حفظ الدين ومكانة الأب ودوره التربوي كل ذلك في إطار أخلاقي إسلامي، ما يجعل العمل مصدراً مهماً لفهم العلاقة المثالية المتخيلة بين الأب والابن في إسطنبول العصر الحديث المبكر .
ربما ما يسجل على الكتاب هو ندرة الدراسات التي تناولت الطفولة في العالم العربي العثماني، حيث اقتصرت دراسة واحدة فقط على دراسة حياة الأطفال الأيتام في مدينة نابلس، في المقابل يُظهر الكتاب حضورا مكثفا يُقدر للباحثين الأتراك المتخصصين بتاريخ الطفولة، ما يطرح سؤالاً مهماً لماذا لا نرى حتى اليوم توثيقاً واسعاً لتاريخ الطفولة في المدن العربية العثمانية، ولماذا لا يهتم المؤرخ العربي بهذا التاريخ؟