فضائح القذافي الجنسية عرض مستمر
إن فضح المعاملات الوحشية التي كانت، ولا زالت، بعض الأنظمة العربية تمارسها تجاه شعبها تعد من بين الأشياء التي ينتظر أن تكشف؟ لكن في أي باب نصنف معاملة هذه الأنظمة تجاه المواطنين والمواطنات خلال فترات الحكم الطويلة التي مكثها مجموعة من الرؤساء الذين إما تم قتلهم، أو إبعادهم عن المشهد السياسي؟
لا شك أننا حينما نقرأ بعض الوثائق المنشورة نتساءل إن كان هؤلاء الناس يملكون حسا أو عاطفة أو إيمانا أو أخلاقا؟ هذا ما نخرج به من انطباعات لدى قراءتنا لكتاب أنّيك كوجان الإعلامية في جريدة ‘لوموند’ الفرنسية، بعنوان ‘الطرائد: جرائم القذافي الجنسية’ ، الصادر في باريس عن منشورات ‘غراسية ‘ سلسلة ‘الوثائق الفرنسية’، يحتوي هذا الكتاب على 336 صفحة ومقدمة وفصلين وخاتمة.
إننا نصاب بالحيرة وبالكراهية للممارسات الوحشية التي يصعب إدراجها في خانة معينة، لأنه وباسم ‘أولاد وبنات القذافي’، أو ‘القائد’ كان ‘حاكم ليبيا’ يسجن الأطفال والبنات منتهكا حرماتهم لمدة تتجاوز العشر سنوات أحيانا، إذ كان ‘القائد’ حينما يزور مؤسسة تعليمية أو إدارية ويضع يده على رأس فتاة تجد نفسها في دهاليز قصر ‘العزيزية’ السيئ الذكر، وهي إشارة منه لبعض مرافقيه مفادها أنه يرغب في تلك الفتاة، اعتمدت الكاتبة على شهادة إحدى الضحايا، المولودة من آب ليبي وأم تونسية، قدمت ورودا ‘للقائد’ حينما زار مدرستها، ‘في احد أيام نيسان/ أبريل عام 2004، ‘كنت دخلت للتو الخامسة عشرة من عمري، جمعنا مدير المدرسة في الساحة ليقول لنا، إن القائد سيشرفنا بالزيارة غدا. وإن ذلك مفخرة للمدرسة كلها، وأنا أعوّل عليكم لتكونوا في الموعد.. منضبطين وفي أبهى حلة. عليكم أن تقدموا صورة لمدرسة رائعة، كما يريدها ويستحقها’. ( ص.33 من الكتاب)، ومنذ ذلك اليوم لم تر ثريا الخير، إذ اغتصبها بشكل وحشي، وراح يضربها ويهينها لرفضها لهذه المعاملات، مما زاد في عناده. تصف لنا الدهاليز التي رميت فيها، بحيث كان يطلبها في أي ساعة من اليوم أو من الليل، وتشرف على هذه ‘المؤسسة الخفية التي يطلق عليها أولاد القائد’ مجموعة من النساء والرجال الذين كان عملهم هو ‘إشباع’ رغبات ‘القائد؟’، فعبر آلام ثريا نكتشف بأن ‘الزعيم’ كان يتناول المخدرات ويجبرها على مشاركته في ذلك، لا يصوم رمضان، ولا يؤمن بشيء، ولا يحترم المقدسات، الشيء الوحيد الذي كان يمارسه وبشكل لافت هو السحر، فكان كلما جيء إليه ببنت أو ولد يستعمل منديلا أحمر، ربما قال له بعض السحرة بأنه بمثابة ‘خاتم سليمان’، فلم يكن يحترم أحدا، الوحيدة التي كان يخاف منها، أو يعمل لها ألف حساب هي السيدة مبروكة المشرفة على تجهيز وتحضير البنات التي كانت تجلبهم له من جميع التراب الليبي، والكثير من حارساته كن قد مررن بتلك الدهاليز وتلك الممارسات الجنسية التي تبيّن أن صاحبها يعاني من أزمة نفسية خانقة.
تؤكد ثريا الضحية بأن لمبروكة تأثيرا كبيرا على ‘القائد’، لكونها تتعامل بالسحر، لكن ذلك لم يمنعها من ‘إدارة’ رغباته، إذ تؤكد ثريا قائلة: ‘من بين الأشياء التي عرفتها عن القذافي نتيجة وجودي معه هو علاقته ‘بالسحر’ وطقوسه، كان ذلك على الأرجح التأثير المباشر لمبروكة، ويقال إن هذا هو سر سيطرتها عليه، فهي تذهب لاستشارة الدجالين والسحرة في جميع أنحاء القارة الافريقية’ (ص.95 من الكتاب).
كما أكّد رجل من الطوارق للكاتبة في شأن مبروكة قائلا: ‘إنها الشيطان بعينه، يسكنها شر مطلق، ولديها مهارة جهنمية، إنها لا تتوانى عن فعل أي شيء من أجل بلوغ هدفها، من كذب، واحتيال، وخيانة، ورشوة، وسحر وشعوذة، إنها تمتلك كل الجرأة، وتناور مثل الأفعى، تستطيع بيع الريح لمن لا يريد أن يشتري شيئا’ ( ص.292 من الكتاب).
ومن خلال ثريا تؤكد الكاتبة قائلة: ‘لعل أهم ما أثر فيّ شخصياً هو قصة الصبية ثريا، التي جعلتها على نحو ما محور الكتاب، التي اختطفها القذافي من بيتها عن عمر لا يتجاوز الرابعة عشرة، لكي يغتصبها ليلا نهارا طيلة خمس سنوات، بعدما احتجزها تحت أقدامه في باب العزيزية، ضمن مجموعة من النساء والرجال. وقد قدمت شهادات مهمة عن مختلف السيناريوهات التي تتم في حجرة القائد’. ( ص.11 من الكتاب).
كما عرفت الصحافية من خلال اللقاءات التي عقدتها مع بعض الضحايا والجلادين أن ‘القائد’ كان قد تمكن في بعض الأوقات من ‘مضاجعة 4 فتيات عذارى، على الأقل في اليوم، كما تؤكد لي خديجة الطالبة المغتصبة، التي كانت قد بقيت سنوات عديدة بباب العزيزية، مرغمة على الإيقاع برجال آخرين من رجال النظام’ ( ص.241 من الكتاب). كما استخدم رجالا ونساء مبثوثين في المعاهد والمدارس وحتى السفارات، لاختيار نساء يختطفن من بيوتهن ويضطر أهاليهن للسكوت، خشية الموت أو الفضيحة ‘وان القائد الذي كان يتعاطى المخدرات بشكل دائم ويفرضه على ضحاياه صغيرات السن لم يستثن زوجات مساعديه أو وزرائه وحتى زوجات بعض السفراء وبناتهم’. (ص.93 من الكتاب).
كما كان في القصر طبيبات من أوكرانيا يشرفن على الكشف عن الضحية قبل أن يتم تسليمها للجلاد، الذي لم يكن يكتف بممارسة الجنس معهن بشكل مؤلم فقط، بل يقول لهن كلاما جارحا ‘ويبول عليهن بعد انتهائه من ممارسة جنونه’. ويؤمرهن بمشاهدة أفلام إباحية تحت رعاية ‘مسؤولة’ في هذا القصر الجهنمي.
فهذه الفضائح التي ارتكبها ‘حاكم ليبيا’ لمدة 42 سنة، ضد شعبه وضد الذين احتاجوا لخدمته تجاوزت كل الحدود والتصورات، إذ مارس الجنس مع بعض نساء وزرائه، و بعض المسؤولين العسكريين بمختلف أنواع رتبهم، كما شملت متاهاته مجموعة من النساء الأجنبيات العربيات والافريقيات والغربيات، وكانت ترصد لذلك أموال طائلة.
كما تؤكد الكاتبة على لسان ثريا: ‘لقد لمحت خلال إقامتي بباب العزيزية من زوجات رؤساء دول افريقية، لا أعرف أسماءهن، يعبرن أمامي، وكذلك لمحت سيسيليا ساركوزي زوجة الرئيس الفرنسي وكانت جميلة متكبّرة، وفي مدينة سرت لمحت توني بلير الذي قال لنا محييا ‘أهلا يا فتيات’ وهو يلوح لنا في ود وابتسام’ (ص.94 من الكتاب).
كما اكتشف الثوار بعد دخولهم القصر قاعات للإجهاض سواء في القصر، أو في أماكن أخرى، بل حتى في بعض الأحياء الجامعية. تؤكد السيدة كوجان أنها توجهت إلى ليبيا بعد الثورة ‘وهنا كانت مفاجأتي الكبيرة؛ أن أتعرف على بعد غير مرئي من معارك القذافي القذرة التي حوّل فيها جسد المرأة مرتعا لحروبه الخاسرة. وقادني هذا الموضوع للبحث بشكل أعمق في الأسباب التي يمكن أن تدفع ‘بزعيم’ بلد، يأمر بالاعتداء الجنسي على بنات بلده؛ المفترض أنهن تحت رعايته’ ( ص.9 من الكتاب). ثم تستمر مؤكدة هكذا عدت لليبيا أكثر من مرة للبحث في الموضوع؛ وتطرقت لذلك مع كل ‘من كانت لهن علاقة بالأمر من الضحايا أو من المعتدين وقابلت بعضهن في السجون ومراكز التوقيف عند الثوار. وكيف أن القذافي لا يكتفي بالاغتصاب، بل كان يحتفظ بالطرائد، في قصره ويحولهن إلى عبيد وجوار لإرضاء نزواته بشكل مروع. من هؤلاء أولاد في الثانية عشرة أو الرابعة عشرة’ ( ص. 9 من الكتاب).
انطلقت الكاتبة من هذه المشاهدات ومن هذا البحث الميداني الذي قامت به رويدا رويدا لتضع يدها على تلك ‘المؤسسة الجهنمية ‘ التي كان ‘القائد’ من خلالها يحتقر الخاص والعام، أي وظّف حكمه لانتهاك حرمات الناس، وهي تقرّ بأن الهدف من هذا الكتاب هو ‘أن نقوم بالتنديد بكل الخطايا، وبكل العدوان الذي قام به القذافي في ظل صمت عالمي مشبوه. والا نسكت عن هذه الجرائم التي أزكمت رائحتها الأنوف. وهذا واجب الصحافي عندما يقع على حقيقة جهد لإخفائها عن الأنظار’. ( ص.16 من الكتاب).
كان ‘الرجل’ يوظّف كل الوسائل لذلّ واحتقار الآخر، وهذا ما تجسده الشهادات التي وقفت عليها الكاتبة حينما حلّلت رغبة المرأة في التخلص من هذا المجنون، إذ وقفت على ما وقع في سجن أبي سليم، حيث كانت الأم أو الزوجة أو الأخت تأتي بالأكل لتزور السجين، وكان السجانون يأخذون تلك ‘الأمانات’ ويوهمون النساء بأنهم سيسلمون ذلك إلى أقاربهم، ولكن هؤلاء السجناء تم قتلهم في يوم واحد بعد محاولة القيام بإضراب لطلب تحسين ظروفهم، ولم تعرف حقائق هذه الكارثة إلا أثناء وبعد الثورة، فبقي هؤلاء النساء صامدات يطالبن بمعرفة الحقيقة التي كانت من إحدى أسباب انطلاق التمرد والثورة على هذه الطاغية، أي اكتشفت الكاتبة بأن دور المرأة الليبية كان حاسما في الثورة وإنهن مثلن سلاحها السري.
وصرح أحد الثوار للمؤلفة بأن الليبيات تحملن مخاطر خرافية، حيث كان يتهددهن في كل لحظة خطر الاعتقال والتعذيب، خاصة الاغتصاب ذاك السلاح الرهيب الذي استعملته كتائب القذافي لترهيب الفتيات الثائرات أو لترويع الثوار الذين يتركون منازلهم للالتحاق بساحات الوغى. ولهذه الأسباب تم التكتم على دورهن الفعال رغم أنهن شجعن المقاتلين ووفرن الطعام والدواء والمعلومات وقمن بجمع المال لشراء السلاح وتجسسن على قوات القذافي، كيف لا وقد كان لنساء ليبيا ثأر خاص مع القذافي عملن على أخذه. هذا ‘الثار لا علاقة له بمصادرة الحريات وقمع المعارضة والظلم والاستبداد والقهر والهوان وتدمير المنظومة الصحية والتربوية والثقافية ولا باحتكاره وعائلته لعائدات النفط ولا بعزل ليبيا عن بقية دول العالم فحسب، وإنما له علاقة أيضا بقضية الاغتصاب الجماعي وهتك الاعراض التي نفذها مرتزقته وكانت المرأة ضحيته طيلة حكم القذافي، من دون أن تجرأ هي أو أهلها على الاعتراض’ (ص.16 من الكتاب) أو فضح ذلك المسكوت عنه، لأن المرأة، رغم أنها ضحية، لا تستطيع البوح بما ارتكب ضدها، وهي تحتفظ بالصمت حتى لا تعاقب مرة أخرى من المجتمع الذي لا يأخذ بعين الاعتبار واقعها المزري، وأنها قدمت كبش فداء، بل يسلط عليها المجتمع كل قساوته ليضعها في خانة أو خانات الاحتقار مما يضاعف من ألمها، وهذا ما تريد الكاتبة أن تفضحه، طالبة من المجتمع ومن نخبته الرأفة بها لأنها كانت ضحية لجمالها أو لمعطيات أخرى، فما ذنبها هي التي عانت الأمرين، ودفعت طفولتها وشبابها في أقبية قصر العزيزية.
أما موت الطاغية بتلك الصورة فقد عبر عنها محام مصراتة على لسان الكاتبة ‘ الكثير من الليبيين شعروا بأنهم ثأروا لأنفسهم منه بهذه الحركة الرمزية. قبل لقائه الموت. اغتصب المغتصب’ ( ص.306).
إننا نتساءل عن وصف هذه الكتابات، أي أين نضعها، هل تدخل في نطاق الأدب، أم السيرة، أم الخيال، أم الرواية، ربما تجمع كل هذه الأمور، وهي كتابة فضح المعمول به والمسكوت عنه خلال سنوات طويلة، إننا نصاب بكثير من الألم ونحن نقرأ صفحات هذا الكتاب المليئة بالجرأة ورغبة التخلص من تلك المعاملات الشنيعة، مما جعل الكتاب يترجم لعدة لغات غربية من ضمنها الانكليزية والإيطالية والألمانية، كما ترجم إلى اللغة العربية وصدر عن منشورات ‘المتوسطية’ بتونس، حيث يؤكد الناشر أن الطبعة الأولى المكونة من 5 آلاف نسخة انتهت في ظرف أسابيع.