شاهد على نكبتين .. في يوم واحد
عاد بي شريط الذكريات سريعًا إلى تفاصيل النكبة الفلسطينية بكل مآسيها عند أول خيمة شاهدتها وعند أول حديث مع “مهجّرين” من مخيماتهم، التي لجؤوا إليها في نكبتهم الأولى قبل خمسة وستين سنة .. كان ذلك في داخل الأراضي السورية التي تشهد صراعًا، تأثر به الفلسطينيون هناك كما السوريون.
في منتصف شهر أيار (مايو) 2013، كان موعدنا للدخول إلى سورية مع قافلة “حملة الوفاء الأوروبية لعون منكوبي سورية”، والتي شاءت الأقدار أن تتأخر إلى هذا الوقت، مع أننا كنا نُعد لإطلاقها في شهر شباط (فبراير) الماضي لتقديم العون لمن تقطعت بهم السبل؛ لنكون شاهدين على نكبتين.. نكبة شعبنا قبل خمسة وستين سنة، والتي يحييها الفلسطينيون في مختلف أماكن تواجدهم، ونكبة حية يعيشون الفلسطينيون والسوريون معًا هذه الأيام ..
فبينما كنا نزور مخيمات اللاجئين الفلسطينيين ومراكز الإيواء السورية كنا نشاهد مناظر وقد تكررت في أذهاننا .. شاهدنا تفاصيل النكبة الفلسطينية، وأصبحت الحكايات التي كانت تُسرد عن النكبة واقعًا نلحظه بأم أعيننا .. ومقابل كل حالة نشاهدها نتذكّر صورة من صور النكبة.
كان لافتًا للأنظار الاكتظاظ في مراكز الإيواء خارج المخيمات والتي تعج بالنازحين من المخيمات الفلسطينية على وجه الخصوص، معظمهم نساء وأطفال وكبار في السن، يحتمون الآن في المدارس التابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “الأونروا” في أوضاع أقل ما توصف بأنها “لا إنسانية”، والتي تتفاقم في ظل التجاهل الدولي والعربي لهم.
الطريق الى دمشق
كانت الشكوك كبيرة عندما بدأنا العمل من أجل إدخال أول قافلة معونات شعبية إلى داخل الأراضي السورية، رغم ما تشهده من أحداث متصاعدة لا سيما استهداف المخيمات .. كيف ندخل، وهل في الإمكان تحقيق الهدف، وما هو حجم المخاطرة. لكن مع نزوح كبير للفلسطينيين من المخيمات إلى المناطق الأكثر أمنا في دمشق وعدم تمكن هذه العائلات من الوصول لدول الجوار لعدة اعتبارات سياسية وجغرافية واقتصادية؛ فقد كان لزامًا تجاهل تلك الشكوك والتساؤلات، وكان إطلاق حملة المعونات للداخل السوري أمرًا واجبًا.
بعزيمة وإصرار وثقة استمرت الحملة بالتنسيق والترتيب والتنظيم، حتى استطاعنا برغم كل الظروف أن ندخل كأول قافلة شعبية إلى العمق السوري لنصل ونكون أول من يدخل ليطلع ويعاين الوضع عن كثب، فكان هول ما شاهدناه أكبر مما دفعنا للتحرك لنجدة من يعانون. عائلات تعيش في خيم معدومة بلا ماء ولا كهرباء، عائلات متكدسة بداخلها ونقص في المؤن الغذائية والطبية والصحية.
أربع أيام قضيناها في دمشق جعلت الصورة لدينا أكثر وضوحًا وتلمسا للحاجيات المطلوبة للمتضررين من جميع الفئات أهلنا في سوريا وشعبنا الفلسطيني في المخيمات، وجعلت تقديم ما يحتاجونه أمانة في أعناقنا ومسؤوليتنا مع تعاظم المأساة، فستكون هناك مزيد من القوافل في قابل الأيام .. وقريبًا سنكون بينكم.
لمسنا خلال الزيارة شعور أهلنا في سورية بالخذلان من القريب والبعيد، فهذا شعبنا الذي قدم للقضية الفلسطينية ما قدّم، وكان قربان للتضحية ومثالا للتضحيات، فأين نحن من آهاته ومعاناته وعذاباته. كثيرة هي الحجج التي تُساق لتبرير التقصير والخذلان ومن الجميع فصائل ومؤسسات وحركات ومنظمات أهلية ودولية.
“التشتت الثاني”
يسجل فلسطينيو سوريا نكبتهم الجديدة والخاصة مع مرور الذكرى 65 للنكبة .. يسجلون تهجيراً جديداً إلى منافٍ جديدة، في ظل حالة رفض لهم للأسف من قبل الأنظمة العربية المجاورة تحت مسوغات واهية.
سقط من فلسطينيي سورية ما يزيد عن ألف وثلاثمائة شهيد منذ بدء الأزمة في سورية قبل أكثر من عامين، في حين تجاوزت أعداد المهجرين الفلسطينيين 400 ألف، نحو ثلاثمائة ألف منهم مهجرين داخل سورية، بسبب صعوبة الحصول على تأشيرات سفر من جهة، وعدم قدرة اللاجئ على تدبر أمور حياته في مكان آخر، فيما أكثر من 100 ألفاً منهم غادروا سورية باتجاه عشرات الدول. هناك نحو خمسين ألفاً في لبنان، و5600 في الأردن، وبحدود 6500 في مصر، وما لا يقل عن 350 في ليبيا، فيما يوجد في تركيا ما يقدر بـ 500 لاجئ، وهناك المئات ممن تمكن من دخول أوروبا بطريقة قانونية أو غير قانونية، وبعض اللاجئين الفلسطينيين وصل إلى دول مثل الصومال وكمبوديا وجزر المالديف وماليزيا وروسيا، وتشير الإحصاءات إلى أن الفلسطينيين في سورية قد وصلوا بسبب الأزمة إلى أكثر من 30 دولة عبر العالم.
وتعيد نكبة اللاجئين الفلسطينيين بسوريا للأذهان رحلات النكبة التي تعرض لها الفلسطينيون بعد رحلة نكبة الخروج من وطنهم فلسطين عام 1948 وبعد احتلال الضفة الغربية عام 1967، حيث عانى الفلسطينيون من نكبات بعد خروجهم من الكويت عام 1991 ومن العراق بعد احتلاله عام 2003، فضلا عن موجات لجوء يدفع فيها الفلسطينيون ثمن الحروب بمنطقة ملتهبة يجد الفارون من كل الجنسيات مكانا للجوئهم، بينما يظل الفلسطينيون يدفعون ثمن الخوف من توطينهم خارج وطنهم المحتل منذ 65 عامًا.
وإلى حين أن تزول الغمة ويأتي الفرج؛ فإننا كما وقفنا مع أهلنا بغزة في حصارهم وبالضفة في محنتهم وأهلنا بالشتات في التخفيف عن معاناتهم؛ فنحن نؤكد بما لا يدع مجالًا للشك وقوفنا مع من احتضنوا اللاجئين الفلسطينيين أيام محنتهم، وسنبقى رافعين شعار “وفاء لأهلنا في سورية”.
بقلم / أمين أبو راشد
لاهاي – هولندا