خطة «السيسي» لخروج أوباما عارياً من البيت الأبيض
يعرف الجنرال المصري عبدالفتاح السيسي أن كل كلمة وكل تصريح يصدر عنه سيكون حديث العالم، فالخبرات التي اكتسبها في هدوء وبعيداً عن الضجيج جعلته يعلن منذ ساعات تصريحات في منتهي الخطورة يطالب فيها الإدارة الأمريكية بممارسة بعض الضغوط علي قيادات جماعة الإخوان لإنقاذ الموقف إن أرادت أمريكا ذلك، وأعلن الجنرال السيسي أيضاً أن تصريحات أوباما المترددة بشأن الثورة المصرية تغضب الشعب المصري منه ومن بلاده فلا يجوز أن يصف ثورتهم بأنها انقلاب.
وكما توقع الجنرال قامت الدنيا ولم تقعد وجلس رجال السياسة في العالم يحللون تلك التصريحات التي أربكت حساباتهم وجعلتهم يتأكدون أنهم في مبارزة خاصة مع “ماكر” مصري جديد يتعامل بمنهج مختلف تماماً عن سابقيه.
وليست هذه المرة الأولي التي يضع فيها الجنرال المصري كل هؤلاء في ذلك الموقف، فمنذ مساندته للثورة الشعبية في مصر وهو يمثل لغزاً خاصة للإدارة الأمريكية، فالرجل الذي يتخذ من كبار جنرالات الجيش المصري قدوة له يتحرك بهدوء غير مسبوق ويفعل المعجزات بخطوات بسيطة، وخلال أيام كان “الجنرال” المصري يتصدر أغلفة الصحف والمجلات العالمية باعتباره منقذ المصريين من قبضة التطرف والرجل القادر علي مواجهة الأمريكان بحرب باردة لم يجرؤ غيره علي خوضها أو الاقتراب منها، ونجح في هز الولايات المتحدة الأمريكية ومفاجأتها بسيناريوهات جديدة لم تتوقعها مطلقاً، ووجه ركلة قوية للمؤخرة الأمريكية حسب تقرير معهد ستانفورد.
تصريحات الجنرال الأخيرة وضعت الكرة في ملعب الأمريكان وبكلمات قليلة نجح الجنرال في كشف أبعاد العلاقة بين الطرفين “الجماعة والبيت الأبيض” للدرجة التي يملك فيها أوباما وإدارته التأثير عليهم وتنفيذ تعليماته فوراً، أما حديثه عن غضب الشارع المصري من الرئيس أوباما فهو حديث الكبار الذين يكشفون زيف ادعاءات البعض بالمطالبة بحريات الشعوب وتملك إرادتها في الوقت الذي يستكثرون علي شعب مصر الحق في امتلاك حريته من فصيل متطرف.
والتصريح رسالة لكل الأطراف وبداية جديدة للخطوة المقبلة في رسم مستقبل العلاقات مع الإدارة الأمريكية.
لم يصل الجنرال السيسي إلي تلك المرحلة من الحكمة والقدرة علي إدارة الصراع الشرس في الوقت الحالي بسهولة، لكنه رسم سيناريوهات تلك المرحلة قبل أن تبدأ، فقد كان علي يقين بأن هذا اليوم سيأتي وأن الغضب الشعبي المصري تجاه جماعة الإخوان ورئيسها الذي يدير البلاد سيصل إلي ذروته خاصة مع عدم اهتمام الرئيس المعزول بما يتم تقديمه إليه من تقارير عن مستوي الغضب الشعبي ضد سياساته، لذلك استغل الجنرال السيسي الفترة التي قضاها كوزير دفاع لمحمد مرسي في بناء علاقات قوية للغاية مع الحزب الجمهوري الأمريكي وهناك علاقات قوية جداً حالياً بين السيسي والجمهوريين أو قطاعات منهم حيث قدم لهم السيسي وعداً صريحاً بأنه سيجعل نهاية ولاية أوباما نهاية درامية للغاية تجعل من المستحيل علي الديمقراطيين الوصول للحكم في أمريكا لأكثر من دورة رئاسية لكنه أوضح لهم أنه يحتاج دعمهم لتنفيذ ذلك عبر نفوذهم داخل الكونجرس الأمريكي وشركات السلاح.
بالتوازي استطاع السيسي أن يصنع «حلف النصف يوم» في إشارة للتفاهمات التي تمت أثناء زيارة الفريق صدقي صبحي للإمارات قبل أشهر والتي ذهب إليها تحت غطاء مناسب وهو استعراض معرض سلاح دولي أقيم هناك ليتم عقد لقاءات سريعة بكوكبة من رجال الخليج النافذين لتأمين ما تحتاجه مصر إذا ما سقط نظام الإخوان والحصول علي وعود صريحة بدعم الاقتصاد المصري والضغط علي جهات التمويل فيما يخص سد النهضة الأثيوبي وعندما عاد إلي مصر كان يحمل معه أخباراً أكثر من مبشرة للجنرال السيسي.
وبالتزامن مع اقتراب يوم سقوط محمد مرسي كان السيسي قد استطاع أن يلم بخريطة واضحة للأمور علي أرض مصر وخريطة للتحالفات القادمة سواء ضده أو معه وأصبح تقدير الموقف مبشراً للغاية وعندما تحركت قوات الجيش لتسيطر علي المدن المصرية قبل يومين من الموعد المقرر للزحف نحو القصر الرئاسي كان ما يحدث حالياً قد تحول بالنسبة للسيسي وقواده إلي «توقعات مؤكدة» وبقي استكمال شكل إدارة المعركة مع إدارة أوباما التي يصر السيسي علي جعل نهايتها درامية.
يعتمد الجنرال المصري علي عدة محاور في «حربه ضد أوباما» واحد منها هو التلاعب بأسعار النفط وهو ما يرضي الخليجيين تماماً والثاني هو تحريك قطاعات في الجمهوريين لتقزيم دور أوباما خلال الفترة المقبلة، ويعلم الجنرال المصري جيداً مدي تدهور القوي العقلية للرئيس المتحفظ عليه محمد مرسي لذلك وافق علي جعله مزاراً لبعض المبعوثين الدوليين وحتي الأفارقة حيث أراد السيسي أن يزيد من جراح أوباما كثيراً فبينما رفض بشدة أي محاولة أمريكية لزيارة محمد مرسي فإنه وافق لكاثرين آشتون علي زيارة محمد مرسي لمدة ساعتين أدركت خلالها آشتون أنها تتحدث إلي رجل لا يدرك جيداً حقيقة الوضع للدرجة التي دفعته إلي أن يحاول «تجنيدها» لنقل رسائل لقيادات إخوانية في الخارج وعند انصرافها كانت آشتون تحت انطباع بأن من أدار الدولة خلال الفترة السابقة كان رجلاً يعاني من مشاكل في الإدراك وهو ما نقلته للأصدقاء الأوروبيين لتزيد من حرج إدارة أوباما أمام حلفائه في أوروبا كونه يصر علي التعامل مع تيار اختار بإرادته أن يضع رجلاً مشكوكاً بشدة في قواه العقلية وهو ما تسرب بالطبع إلي قطاعات من الإعلاميين والجمهوريين في أمريكا وهو ما سبب لأوباما الكثير من الحرج بينما يصر السيسي عبر كل تلك التحركات إلي جعل أوباما «بطة عرجاء» فيما تبقي له من وقت داخل البيت الأبيض.
ولم يكن الجنرال المصري وهو يقرأ الخريطة الحالية بعيداً عن مناقشة قضية «المعونة العسكرية الأمريكية لمصر» لكن الجنرال قرر تغيير قواعد اللعبة بحيث تصبح المعونة عنصر ضغط في الاتجاه العكسي، فبينما كانت المعونة العسكرية الأمريكية عنصر ضغط علي كل الإدارات المصرية السابقة نجح السيسي حالياً في جعلها عنصر ضغط علي الإدارة الأمريكية مع تسريب أنباء عن صفقات سلاح روسية لمصر ومباحثات سرية مع الصين حول تصنيع بعض قطع الغيار التي يحتاجها الجيش المصري لصيانة المعدات الأمريكية في نفس الوقت الذي طور فيه السيسي خلال العام الجاري عدداً من المصانع الحربية المصرية للقيام بتصنيع قطع الغيار تلك دون النظر إلي موافقة أمريكا من عدمه في استفزاز واضح للإدارة الأمريكية ليصل معها إلي الحد الفاصل وهو مناقشة قطع المعونة العسكرية عن مصر، وقبل أن يتطور الوضع إلي هذا الحد كان السيسي متأكداً من انتصاره في التصويت ضد قطع المعونة ليبدأ في المرحلة القادمة مزيداً من المساومات، فهو يريد أن يتصرف في المعونة الأمريكية بمزيد من الحرية ليشتري بالمعونة الأمريكية أسلحة من الصين وروسيا وكوريا وغيرها في الوقت الذي يرسل الكثير من الأخبار التي تأتي في إطار التهديدات عن توجه مصري واضح نحو روسيا كمصدر للسلاح سواء وافق الأمريكان علي شروطه من عدمه بينما يطمئن تماماً إلي حاجة الأمريكان الماسة للتدريبات المشتركة مع الجيش المصري ومن ناحية أخري فإن أوباما قدم له مجاناً ورقة ضغط أخري عندما تعهد بإنهاء الأمر بين إسرائيل والفلسطينيين خلال فترة محددة، وفي السياق نفسه تأتي التسريبات عن الزيارة المقبلة للرئيس الروسي بوتين والمتوقع أن تتم خلال الأسبوع الجاري وربما عقب الانتهاء من كابوس الاعتصامات في رابعة والنهضة.
علي الجانب الآخر وقف الرئيس الأمريكي مذعوراً أمام تصرفات غير متوقعة من الجنرال المصري، فقد كان أوباما يحاول توديع البيت الأبيض مع «إنجاز ما» قد يسمح لحزبه بالحصول علي فرص في الانتخابات الرئاسية القادمة ولم يكن أمامه بعد تطورات الأوضاع سوي التسوية الإسرائيلية- الفلسطينية وهو ما شكل بالنسبة للسيسي هدية مجانية من أوباما.. فالسيسي يملك في تلك اللحظة التأثير علي الجناح الصديق من الفلسطينيين لمصر لتأجيل أية تسوية حتي خروج أوباما من البيت الأبيض عارياً تماماً «بتعبير السيسي الذي فضل استخدامه عند لقائه آن باترسون الأخير» وبينما يسخر السيسي بشدة من أي إمكانية لممارسة الإدارة الأمريكية أو الاتحاد الأوروبي أي شكل من أشكال العقوبات ضد مصر فإنه يعلم تماماً أن أي قمع سيواجه به الإسلاميين في مصر لن يشكل تهديدا للاقتصاد المصري مع التعهدات الخليجية بحماية الجانب الاقتصادي المصري وممارسة أقصي أنواع الضغط سواء علي الإدارة الأمريكية أو الاتحاد الأوروبي الذي يلوم أوباما كثيرا علي ما وصل إليه سعر البترول حاليا
وسط كل ذلك فإن المؤشرات تشير إلي أن السيسي أصبح الشخصية الأكثر شعبية ليس في مصر فقط ولكن في أجزاء كثيرة من الدول العربية وبعض الدول اللاتينية وإذا فكر السيسي في خلع البدلة العسكرية والترشح للرئاسة -وهو ما نفاه تماما حتي اللحظة- فإن المصريين قد يتعاملون مع من يترشح في مواجهته بكثير من العدائية لكن الأهم أن السيسي نفسه يدرك أنه لا يحتاج لمنصب الرئيس بصورة أو بأخري فهو يتحرك وبدعم شعبي واضح لكي يكون أي رئيس قادم غير قادر علي التأثير علي قرارات الجيش وغير قادر علي النفاذ إلي داخل الأجهزة الأمنية كما أنه لن يكون قادراً علي تمرير الاتفاقات الدولية التي يجدها الجيش أو الأجهزة الأمنية ليست في صالح الدولة، وسواء قبل المصريون بتعديلات الدستور الحالي أو رفضوه ليصيغوا دستوراً جديداً فإن الإدارات الأمريكية القادمة لن تكون قادرة علي الخروج بأي مكاسب من أي رئيس قادم لأنه ببساطة لن يكون قادراً علي تقديم أي شيء سوي بعد الكثير من المشاورات مع العسكريين ومواجهة الانتقادات الحادة حتي من البسطاء في مصر.
وأخيراً.. لابد أن نتوقف طويلا أمام ما ذكرته صحيفة “وورلد تريبيون” عن أن وكالة المخابرات المركزية “سي آي إيه”، ووزارة الخارجية الأمريكية، أخطأتا في تقاريرهما عن الفريق أول عبدالفتاح السيسي، وكانتا علي قناعة بأن السنوات التي قضاها في الدراسة بالولايات المتحدة ستجعله أكثر تعاونا مع واشنطن من سابقيه.. ونقلت عن مسئول أمريكي قوله: “السيسي” لم يبد مهتماً بالمطالب الأمريكية، وردوده علينا كانت أكثر خشونة بكثير من مرسي ومبارك، والأكثر أنه استغل معرفته واتصالاته الواسعة في واشنطن لمقاومة الضغوط الأمريكية عليه، معلقاً “هو رجل يعرف نقاط ضعفنا”.. وقال مسئول آخر للصحيفة: إن “السيسي” تجاهل كل مناشدات الإدارة الأمريكية وتهديداتها لمنع الإطاحة بمرسي، ثم التوقف عن ملاحقة قادة الجماعة، وقال مسئول آخر للصحيفة: إن “السيسي” أبلغ واشنطن أنه لن يتساهل مع أي محاولة للتدخل الأمريكي في بلاده.. وقال مسئول أمريكي آخر: إن الإدارة الأمريكية تري أن ما حدث في مصر تدمير للديمقراطية الوليدة، فيما يعتقد “السيسي” أن تدخله أنقذ البلد من مصير ليبيا وسوريا.. وقلل المسئولون من أثر تهديدات قطع المعونة، وأشاروا إلي حصول مصر فوراً علي 12 مليار دولار من دول الخليج، وقال أحدهم: الحقيقة أننا لا نملك وسيلة للضغط أو التأثير عليه.. لكنه من يملك أوراق ضغط علينا”.. وقالت شبكة “سي بي إس” الأمريكية: إن “السيسي” أصبح أكثر الشخصيات شعبية بين المصريين، الذين يعتبره كثير منهم “منقذ البلاد” ومخلصها من رئيس مكروه بشدة.. مشيرة إلي أن شعبيته تحولت إلي “بزنس” مربح للباعة الجائلين.. وقال مراسل الشبكة: “رأيت بنفسي عراك الناس في الشارع للحصول علي صور بطلها” وتساءل: هل يصبح الرجل جنرال العرب القوي القادم؟
اخبار البلد – رصد