جحا الإسرائيلي
الزمان هو أواخر ثلاثينات القرن الماضي، وإيران هي ألمانيا النازية. هذه هي العبارة التي تختصر الاستراتيجية السياسية لبنيامين نتنياهو حيال البرنامج النووي الإيراني. من خلال ذلك، يحاول رئيس الوزراء الإسرائيلي تكريس تصور في الوعي العام الدولي بأن أية مقاربة تصالحية مع طهران سيكون من شأنها فتح شهية الجمهورية الإسلامية نحو المزيد من التوسع على حساب مصالح الغرب في المنطقة والعالم، وسيعزز التهديد الذي تمثله إيران على الأمن والاستقرار الإقليميين والدوليين.
ولكي تكتمل عناصر الإسقاط التاريخي، لا بد من ونستون تشرتشل، الشخص الذي يجهد نتنياهو لأداء دوره، بحماسة فائضة، كنبي التحذير من الخطر النازي ـــ الإيراني والرفض الحاسم لأي تسوية معه. في ممارسته لهذا الدور بلغ نتنياهو حدود الذروة، ولعله فاق تشرتشل الأصلي في ذلك، حتى بات يمكن القول إن حملة الترويج للــ«إيران فوبيا» (الرهاب الإيراني) التي يقودها نتنياهو منذ سنوات تحولت عنده شخصياً إلى «إيران مانيا» (الهوس الإيراني). وقد يكون رئيس الشاباك السابق، يوفال ديسكين، الأكثر إجادة في تشخيص «حالة» نتنياهو الإيرانية حين رأى أنه يتصرف كأنه المسيح المخلص ويتعاطى مع الشأن الإيراني مدفوعا بشعور خلاصي.
استحوذت إيران على تفكير الرجل إلى درجة أن أي ظهور علني له يكاد لا يخلو من التطرق إلى الخطر الإيراني. يصعب على العالم أن ينسى مثلا تلويحه الكاريكاتوري، من على منبر الأمم المتحدة قبل نحو عامين، برسم كرتوني لقنبلة تتوسطها خطوط حمراء تحاكي نِسَباً لتخصيب اليورانيوم، معلناً حظر تجاوزها إيرانياً. بعدها بعام، في تشرين أول الماضي، وقف نتنياهو على المنبر نفسه ليلقي كلمة امتدت إلى نحو 31 دقيقة خُصصت منها 25 دقيقة للحديث عن الخطر النووي الإيراني، آتيا على ذكر مفردة إيران بمعدل مرتين ونصف مرة في الدقيقة (ولا يشمل الإحصاء مفردات رديفة وردت في الخطاب مثل «روحاني» الذي ورد ذكره 26 مرة). تكرر الأمر في محاضرته أمام منتدى سابان في كانون الأول الماضي، التي تمحور نصفها حول الخطر الإيراني، ووردت المفردة فيه 32 مرة. ذلك ما حصل أيضاً في خطابه الأخير أمام مؤتمر إيباك، الذي عقد مطلع الشهر الجاري، حيث حجزت كلمة إيران 48 مكاناً بين سطوره التي شُغل نحو نصفها كذلك بالخطر الإيراني.
والخطر نفسه كان له حضوره شبه الدائم في التصريحات الافتتاحية التي يطلقها نتنياهو في مستهل الجلسة الأسبوعية لحكومته. فبحسب إحصاء أجرته «يديعوت أحرونوت»، حاز الموضوع الإيراني المرتبة الثانية من حيث عدد التطرقات في أقوال رئيس الوزراء، مقارنة بموضوعات أخرى. كان للموضوع الأمني فقط قصب السبق على الموضوع الإيراني.
قبل ذلك، وخلاله وبعده، لم يغب عن أدبيات نتنياهو وخواصّه التلويحُ الدائم بالاستعداد للجوء إلى الخيار العسكري ضد البرنامج النووي. استعدادٌ كلّف الخزينة الإسرائيلية 11 مليار شيكل، بحسب ما كشف، منتقداً، سلف نتنياهو في المنصب، إيهود أولمرت. واستمر استغراق نتنياهو في وسواسه الإيراني إلى أن استفاق على صدمة الاتفاق المرحلي الذي أفضت إليه المفاوضات بين طهران والدول الغربية، وهو اتفاق عنى من الناحية العملية سلب رئيس الوزراء الإسرائيلي ورقة التهويل بالخيار العسكري.
ثم جاءت حادثة اعتراض سفينة «كلوس سي» واكتشاف حمولة السلاح الإيرانية ـــ السورية المتجهة على متنها إلى المقاومة في قطاع غزة. هنا تعامل نتنياهو كأن السماء أهدته الفرصة التي كان يصلي من أجلها لتجريم إيران بما يفتح الباب أمام تقويض احتمالات التفاهم معها. عملية الاعتراض بدت ـــ لكثرة تغطيتها الصورية ـــ كأنها مأخوذة من تلفزيون الواقع، فيما بُذلت جهود استثنائية لتحويل معرض الأسلحة المصادرة الذي أقيم في مرفأ إيلات إلى لائحة اتهام ليس ضد إيران فقط، بل ضد المجتمع الدولي «المنافق» أيضاً ـــ كما وصفه نتنياهو ـــ الذي يتحاور معها فيما هي تصدر الإرهاب إليه.
بيد أن نتنياهو، الذي سعى إلى صفع الغرب بـ«الكشف الكامل» (اسم عملية اعتراض السفينة) عن «وجه إيران الحقيقي»، تلقى صفعة مرتدة لعلها الأشد في تاريخه الإيراني. وتمثلت هذه الصفعة بالبرودة التي تعاطى بها الغرب مع الأمر، بحيث بدا حلفاء إسرائيل رافضين عن سبق إصرار لإدراج هذا الموضوع في جدول أعمالهم، برغم ما فيه من «عناصر إدانة». والأشد وطأة في الأمر أنه فيما كانت الخارجية الإسرائيلية تتقدم بشكوى إلى مجلس الأمن الدولي، تتهم فيها طهران بخرق القرارين الدوليين 1747 و1929 اللذين يحظران على الأخيرة تصدير أسلحة من أي نوع، وكذلك انتهاك القرارين 1373 و1860 اللذين يحظران دعم الإرهاب وتهريب السلاح إلى غزة، كانت الولايات المتحدة تعلن أنها تعاونت استخبارياً مع إسرائيل في التخطيط لعملية اعتراض السفينة وتعقبها، ثم بعد ذلك تعلن إدانتها لعملية تهريب الأسلحة. وإذا كان لهذه المفارقة من معنى، فهو إقرار أميركي رسمي وصريح بواقعة التهريب، وتاليا بخرق إيران للقرارات الدولية، مقرونا بموقف بالغ الدلالة هو عدم الرغبة بترتيب أي أثر على هذا الخرق. أما أوروبا، فيكفي دلالة على موقفها التجاهل التام من قبل منسقة شؤونها الخارجية، كاثرين أشتون، لحادثة السفينة، وهي التي كانت موجودة أثناءها في طهران لبحث سبل تطوير العلاقات المستقبلية بينها وبين الاتحاد الأوروبي.
ما الذي يعنيه كل ذلك؟ جملة أمور، أهمها أن حادثة السفينة، وعوضا عن أن تمثل مدخلاً لوضع إيران مجددا في قفص الاتهام الدولي، بحسب ما كانت تأمل إسرائيل، تحولت إلى مؤشر كاشف عن قرارٍ دوليٍ حاسم بالتقارب مع طهران من دون أن يكون مشروطاً بتخلي الأخيرة عن أيٍّ من سياساتها الإستراتيجية، بما في ذلك سياسة دعم المقاومة المقترنة بسياسة «إزالة إسرائيل من الوجود». أما بالنسبة إلى نتنياهو، فلا تعني حادثة السفينة أقل من تحوله إلى نسخة إسرائيلية عن جحا. فهو بقي على مدى أعوام يستنفر العالم من الذئب الإيراني الذي جاء ليفترس أغنامهم، وكان مصيره في النهاية أن العالم تركه يصرخ وحيداً رغم أنه شاهد «الذئب» الإيراني يأتي فعلا ليقدم العون لمقاومة تفترس احتلاله.
محمد بدير .. نقلا عن (جريدة)