الحكومة التونسية، مائة يوم بلا خارطة طريق
وترى أكثرية التونسيين أن حكومة الحبيب الصيد ركزت جهودها خلال الأشهر الثلاث الأولى على الجانب الأمني من خلال ملاحقة الجماعات الجهادية، وتجاهلت أن مطالبهم تطرح بشكل أفقي لا مفاضلة بينها، فتحقيق التنمية المستدامة والعادلة وتوفير مواطن الرزق للعاطلين ومكافحة الإرهاب واستعادة الدولة لهيبتها وأداء مؤسساتها السياسية وتفعيل الدبلوماسية بما يساهم في جلب الاستثمارات الخارجية وفي تدفق السياح كلها تعتبر بالنسبة للتونسيين أولويات ملحة تستوجب جهودا متوازية.
ويطالب التونسيون الحكومة الائتلافية بوضع “خارطة طريق واحدة” تكون قادرة على مواجهة التحديات خلال السنوات القادمة.
ويقول المراقبون إن أهم وأولى الرهانات المطروحة على الحكومة هو إعادة الأمل للتونسيين، الأمل في المستقبل، وفي فرحة الحياة وفي إنقاذ البلاد، الأمل في أن الحكومة قادرة على أن تعيد للناس الثقة في أنفسهم وفي السياسيين باعتبارهم المعنيين مباشرة بانزلاق الوضع لهدا الدرك الأسفل اليأس.
استعادة الأمل
ويشدد المراقبون على أن الحكومة ستكون قد أنجزت إنجازا تاريخيا إذا ما أعادت للتونسيين ثقتهم في ذواتهم والأمل في أن تونس قادرة على التخلص من تركة ثقيلة نتيجة أربع سنوات من السياسات الفاشلة.
وتعتبر “خارطة الطريق” بشأن توفير التنمية، المدخل السليم لتحقيق مطالب التونسيين، فالحكومة مدعوة كرها لا طوعا إلى مباشرة سياسات تنموية عاجلة وعملية تقدم حلولا فعلية لمشاكل الناس التي طالت ونغصت عليهم الإحساس بالانتماء لهذه البلاد، ولن تكون تلك السياسات مجدية إن لم تستند على خطة إستراتيجية تتحسس المشاغل الحقيقية حسب أولوية كل جهة وكل فئة من فئات المجتمع، إستراتيجية تنبني على مفهوم التقاسم العادل لعائدات الخيرات.
وتظهر المؤشرات حول الفقر خطورة الفوارق الاجتماعية إذ أن نسبة الفقر العامة تناهز 25 بالمائة أي أن ربع التونسيين يعيشون تحت عتبة الفقر المدقع، غير أن هذه النسبة لا تعكس حقيقة الأوضاع في الجهات الداخلية المحرومة حيث تصل نسبة الفقر إلى 60 بالمائة في محافظات سليانة والقصرين وقفصة والقيروان ومدنين.
وحول المدن الكبرى مثل تونس العاصمة وصفاقس وسوسة وقابس توجد أحزمة حمراء من الأحياء الشعبية التي تعد قنبلة موقوتة جراء استفحال البؤس الاجتماعي والافتقار لأبسط مستلزمات العيش الكريم بما فيها المياه الصالحة للشرب والتنوير الكهربائي والطرقات والأنهج المعبدة إضافة إلى آلاف العاطلين ما جعل نسبة الفقر تناهز 70 في المائة.
ولا يتردد أهالي الجهات المحرومة والأحياء الشعبية الأشد حرمانا في القول بأنهم “مواطنون من درجة ثانية أو ثالثة” لا يتمتعون بحقهم في التنمية شانهم شأن بقية التونسيين في وقت استشرت فيه مظاهر الثراء الفاحش لدى 20 بالمائة من عدد السكان لتعمق الشهور بالحيف والتهميش من قبل السلطة المركزية.
خطة انعاش الاقتصاد
وترتبط خارطة الطريق بشأن التنمية بوضع خطة لإنعاش أداء الاقتصاد وانتشاله من الوضع الكارثي الذي يعصف به منذ يناير/كانون الثاني 2010، بعد أن تعطلت آلاف المؤسسات عن الإنتاج وغادر المستثمرون الأجانب البلاد حتى أن المنظومة الإدارية للاقتصاد التي تقوم بتعديل السوق انهارت بالكامل لتفسح المجال لفوضى عارمة من أبرز ملامحها انتشار المضاربة والاحتكار في ظل تنامي شبكات متخصصة في التهريب في تحالف وثيق مع شبكات الجماعات الجهادية التي تنشط خاصة على الحدود الجنوبية الشرقية مع ليبيا وعلى الحدود الغربية مع الجزائر.
ووفق أحدث البيانات الصادرة عن البنك المركزي فإن نسبة النمو لا تتجاوز 2 بالمائة في أحسن الحالات فيما تجاوزت نسبة التضخم 6 بالمائة.
ويرجع الخبراء في التنمية الاجتماعية تزايد منسوب الاحتقان الاجتماعي الذي عصف بمختلف القطاعات الحيوية مثل قطاع النقل وإنتاج الفسفاط والتعليم والبريد والإدارة والصحة ومؤسسات الإنتاج إلى “غياب خارطة طريق اجتماعية” من شأنها أن تعكس شياية الحكومة في معالجة مشاكل التونسيين.
وتقول دراسات أنجزتها منظمة الدفاع عن المستهلك أن أسعار المواد الغذائية شهدت ارتفاعا بنسبة 100 بالمائة وفي بعض الحالات 200 بالمائة نتيجة غياب الرقابة على الأسواق.
ويشدد الإتحاد العام التونسي للشغل المركزية النقابية على أنه إذا لم تستجب الحكومة للتفاوض معه بشأن الزيادة في الأجور فإن الاحتقان الاجتماعي سيشتد ليندر بموجة من الاحتجاجات قد تعمق الأزمة.
حزم بلا خطة
وعلى الرغم من الحزم الذي أبدته الحكومة خلال الأشهر الثلاث الماضية في مكافحة الجماعات الجهادية فإن الخبراء الأمنيين يؤكدون أن “الحزم” لم يترافق مع “خطة إستراتيجية في مكافحة الإرهاب”.
ويقول الخبراء أنه ما لم تباشر الحكومة خطة إستراتيجية بالتعاون مع البلدان المصدرة للإرهاب فإن جهودها ستكون محدودة النتائج إن لم تكن فاشلة مسبقا.
وتحول ملف الإرهاب خلال السنوات الثلاث الماضية إلى مشغل يؤرق التونسيين بعد أن قويت شوكة الجماعات الإرهابية واغتالت المناضلين العلمانيين شكري بلعيد ومحمد البراهمي عام 2012، ونفذت هجمات قتلت خلالها عدد من الجنود ورجال الأمن، ونظمت صفوفها في إطار خلايا تقوم بتجنيد الشباب وتسفيره إلى القتال في العراق وسوريا إلى جانب تنظيم “الدولة الإسلامية” ما جعل تونس تتصدر قائمة البلدان المصدرة للإرهابيين بعد أن ناهز عدد المقاتلين التونسيين في صفوف “داعش” أكثر من 3 آلاف مقاتل.
غير أن التونسيين يطالبون أيضا بخارطة طريق “تعيد لمؤسسات الدولة هيبتها” لكونها ستتكفل بتنفيذ مختلف السياسات الأخرى على جميع الصعد، وهم يشددون على ضرورة استرجاع الدولة هيبتها ولكل وظائفها وتترفع عن جميع الأطر الإنتمائية الأخرى بما فيها الأحزاب السياسية والجماعات الجهادية التي تسعى إلى تدميرها.
ويربط الرأي العام التونسي تمسكه باستعادة الدولة لهيبتها إلى أن نجاح الحكومة في انقاذ البلاد من الأزمة يجب أن تقوده دولة قوية قادرة على مغالبة صعاب المرحلة الدقيقة التي تمر بها البلاد.
وينسجم هذا الرأي مع طبيعة دور الدولة في تاريخ تونس، حيث قادت دولة الاستقلال كل معارك تحديث المجتمع بدءا من إعلان النظام الجمهوري عام 1956 وتركيز مؤسسات دولة مدنية وتحرير المرأة إلى مباشرة مشروع وطني حداثي.
خارطة طريق
وفي ظل تجربة ديمقراطية ناشئة وهشة يطالب التونسيون الحكومة بخارطة طريق سياسية واحدة تعكس “موقف الحكومة” لا “مواقف الأحزاب الائتلافية” خارطة من شأنها حماية التجربة الديمقراطية المحفوفة بعديد المخاطر.
ويذهب المحللون السياسيون إلى أن حماية التجربة الديمقراطية تستوجب حمايتها من أخطار داخلية لعل من أخطرها الحيف الاجتماعي، إذ لا معنى للديمقراطية في غياب العدالة الاجتماعية والتوزيع العادل والمنصف لعائدات الخيرات وهو ما يعني ان نجاح التجربة التي يعتز بها التونسيون لكونها الأولى من نوعها في العالم العربي يستوجب من الحكومة أن ترسخ لدى مختلف فئات المجتمع مبدأ المواطنة المرتبط بالمساواة في الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
إضافة إلى المخاطر الداخلية فإن التجربة الديمقراطية في حاجة إلى خارطة طريق تحميها من المخاطر الخارجية وهي مخاطر متأتية من الحدود الجنوبية الشرقية للبلاد حيث يخشى التونسيون أن تلقي الحرب في ليبيا بضلالها وتداعياته على الوضع في تونس كأن تتوسع رقعة المعارك لتشمل جزءا من التراب التونسي وتزج بالبلاد في حالة من الفوضى الأمنية والاجتماعية.
وفي ظل “تنافر” مواقف الإسلاميين والعلمانيين بشأن العلاقات الدبلوماسية خاصة مع عدد من البلدان العربية بما فيها ليبيا ومصر وسوريا، يطالب الشارع السياسي التونسي “الائتلاف الحاكم” بخارطة طريق واحدة وواضحة حول السياسة الخارجية للبلاد تنبني على خدمة مصالح تونس السياسية والاقتصادية بعيدا عن “المواقف المزاجية”.
دعم الاصدقاء
ويقول التونسيون أن بلادهم التي ظلت عبر مختلف الأحقاب التاريخية منفتحة على الثقافات والحضارات الشرقية والغربية ما جعلها همزة وصل بين الشرق والغرب تحتاج إلى تفعيل العمل الدبلوماسي بين البلدان العربية والبلدان الغربية على حد سواء وهم يرون أن تونس اليوم في حاجة إلى أصدقاء يدعمونها ماليا وسياسيا وليست في حاجة إلى عداءات تؤججها ارتباطات بأجندات لا تعنيهم.
ويتمسك التونسيون بضرورة استثمار الحكومة كفاءاتها لكسب ثقة شركائها الماليين والاقتصاديين خدمة لمصالحها الحيوية التي تحتاج لا إلى المساندة السياسية فقط وإنما تحتاج أساسا إلى ضخ الاستثمارات التي يحتاجها الاقتصاد.
وتبدو مطالبة التونسيين الحكومة بخريطة طريق واحدة وموحدة “مطالبة ضمنية” باستعادة البلاد لكيانها الوطني بما هو وحدة لا تتجزأ تتداخل فيها الخارطة الجغرافية مع الخارطة التاريخية بتراكماتها الفكرية والمؤسساتية كما تتخل فيها طبيعة المجتمع التونسي الميال إلى التعدد الفكري والثقافي والسياسي مع مسحة لبرالية منفتحة على مختلف الحضارات والثقافات وكذلك الشعور بالانتماء لدولة وطنية مدنية تتعامل مع الشعب على أساس مبدأ المواطنة.
وتأتي دعوة كل من حزب نداء تونس صاحب الأغلبية البرلمانية وكذلك الإتحاد العام التونسي للشغل إلى إطلاق “حوار وطني” حول مختلف “الملفات” من أجل توحيد المواقف وبلورة خطة إستراتيجية لتعزيز اداء الحكومة.