واقعة «التوك توك».. الشرخ المفزع بين طبقات المجتمع
اعرف أن كلمة إفرازات ستوحى بكثير من الاشمئزاز ولكن رداءة الحال تفرض دلالات معانيها.
2
مؤخرا كشفت لنا حادثة «التوك توك» أزمة لم نكن ندرى أنها تجذرت فى عمق المجتمع، وهى أننا ما عدنا بحاجة إلى مستبد ليمارس استبداده على المجتمع بعد أن أصبح المجتمع نفسه يمارس استبداده على بعضه البعض، أى أن هناك طبقة أصبحت وكيلة المستبد ونائبته فى كل شىء.
3
دعونا نجرد واقعة «التوك توك» من أية تصنيفات سياسية.
نحن أمام مواطن مصرى أيًا كان انتماؤه أو تعليمه او خلفياته الثقافية.
لنعتبره محضَ مواطن وجد نافذة إعلامية تتيح له فرصة البوح المعلن أو الصراخ، فانفجر متحدثا بما يشعر ويقتنع ويتألم بغض النظر، عما اذا كان ما يقوله صحيحا أو غير ذلك.
انتشرت صرخة الرجل كالنار فى الهشيم، تلقفتها قلوب كثير من المطحونين الذين وجدوا من يترجم آلامهم، معاناتهم، فقرهم فصدقوه وهنا ملحوظة تستوجب الوقوف:
«وهى حالة عدم الثقة بين الطبقة الفقيرة الكادحة وبين الأصوات الإعلامية وربما تجلى ذلك فى فيديو آخر لامرأة تمر بنفس حالة الانفجار التى مر بها سائق التوك توك وهى تقول:
«احنا مش بنصدق ولا واحد من الاعلاميين دول بيتاجروا بينا وياخدوا الملايين».
إذًا حالة الانجراف خلف ما قاله سائق «التوك توك» تعكس حالة الشرخ الحقيقى بين المجتمع المصرى ونخبه.
وأنا لا أريد أن أتحدث عن التصنيفات الطبقية بمسمياتها التقليدية بما فيها الطبقة الوسطى وغيرها؛ لأننى أتصور أن الواقع تجاوز هذا المسمى وأصبحنا امام طبقتين وفقط، طبقة المطحونين التى شملت الطبقة الوسطى قديما او طبقة الموظفين وطبقة الفقراء والعشوائيات، والطبقة الاخرى وهى «طبقة القادرين ورجال البيزنس».
الأزمة التى تقرع نواقيس الخطر ان هناك تحولا خطيرا فى انقسام المجتمع هذا الانقسام والفرز نقل العلاقة بين الطبقات من التعايش إلى التصادم والصراع.
بمعنى أن الطبقات فى أى مجتمع مستقر هى «طبقات متعايشة» ويحدث ذلك فى المجمتعات الاقل فقرا
أو هى «طبقات متصالحة» وهذا يحدث فى المجتمعات المستقرة صاحبة الدخول الكبيرة.
ولا تتحول الطبقات فى أى مجتمع إلى طبقات متصارعة إلا فى المجتمعات المأزومة.
حادثة «التوك توك» وما صاحبها تؤكد ــ للأسف ــ أننا نعيش حالة تصارع وتصادم بين الطبقات وهذا تجلى فى عدة ظواهر:
أولا: حين انبرى أصحاب الطبقة القادرة أو ما أسميهم الطبقة المنتصرة بانتمائها السياسى التى دائما نجدها قريبة من قصور السلطان، هذه الطبقة انبرت فى تشويه صاحب «التوك توك» وراحت تكيل الاتهامات إليه.
ولأن هذه الطبقة هى طبقة قادرة، فى يدها الاعلام والمال والسلطة كان تشويهها موجعا.
فليس هناك نافذة اعلامية او فى مواقع التواصل الاجتماعى او فى اروقة الفنادق الفاخرة الا وكان خريج «التوك توك» حكاية التندر، وصاحب مؤامرة كبرى تريد تدمير مصر.
هذا الهجوم الشرس جعل الطبقة الفقيرة التى ينتمى إليها خريج «التوك توك» تدخل فى الصراع والقتال وعلى قدر إمكاناتها، فشاهدنا كثيرا من الفيديوهات التى تكمل ما بدأه الرجل فى ايصال الشكوى، والاستجارة.
ما لفت نظرى هو فيديو لشابة فى السادسة عشرة من عمرها تعلن انها متضامنة مع خريج «التوك توك» بل وتتحدى حين تعلن عنوانها فى النهاية لمن يريد أن يأتى ليقبض عليها، وتستهجن أن يقف مجتمع كامل فى وجه فقير وغلبان.
نحن أمام صراع لا يقف عند جيل معين وهو جيل الآباء الذين يئنون تحت وطأة الغلاء والحاجة وإنما يمتد إلى جيل جديد بات أسيرا لإحساس الظلم وهذا خطير جدا.
لذا سنجد مئات من الفيديوهات بل سنجد تطورا خطيرا لصراع بين أبناء الشعب نفسه.
نحن أمام مجموعة من الملاحظات المهمة إذا ما قمنا بتحليل مضمون لمحتوى مقولات فيديوهات الفقراء والمطحونين:
أولا: نحن أمام خلفية معرفية دقيقة لتاريخ مصر فى أوقات رخائها وفى أوقات فقرها حين نسمع مصطلحات دقيقة مثل:
«دولة ليها مؤسسات عسكرية وسياسية وعشرين وزارة حالها يكون كدا».
«بالله عليك إيه اللى بيحصل».
تحليل الجملة يعكس وعيا فى تمرير الانتقاد، فهم يشتكون فى صياغة سؤال..
ثم فى جملة أخرى يستعيد تراث جده الفلاح الفصيح حين يشرع فى تقديم الحلول فيقول:
«عشان البلد دى تنهض لازم تعليم وصحة وزراعة»
ثم يضيف:
«مصر اللى كان الاحتياط النقدى فيها من أكبر الاحتياطات النقدية».
«مصر اللى كانت مسلفة بريطانيا».
ثم يقدم رؤية تحليلية منطقية لتفسيره للأزمة: «مشاريع قومية فى وجود انسان جاهل مش متعلم ومريض ولا يملك رغيف الخبز هى مشاريع لا تفيد».. خلاصة تحليل مضمون كلام الغلابة أننا أمام جيل ومواطن علمته المحنة فأصبح بالألم خبيرا ودقيقا.ما يأتى فى فيديوهات الفقراء هو كلام نسمعه على الشاشات ونقرأه أحيانا على بعض صفحات صحفنا ولم تقم الدنيا كما قامت على «خريج التوك توك».
ولكن هذه الانتفاضة مردها يعود إلى عدة أسباب:
أولا: أن كلام الرجل وجد صدى عند الطبقة الاكبر والاعم وهى طبقة المطحونين.
ثانيا: وقع الخوف من أن تكون هذه الكلمات سببا فى تحريك أبناء هذه الطبقة التى منت نفسها كثيرا فى العهد الجديد فجاءت أمنياتها خاوية.
رابعا: الارتباك الكبير يخلق تشتتا فى التصرف يعمق الأزمة.
4
الأزمة الحقيقية التى تدق نواقيس الخطر ليست أن الرجل يريد أن يزيد الشرخ بين الشعب والحاكم كما يفسرها قصار النظر، أو أن الرجل الفقير تحركه الإمبريالية العالمية من الخارج والجماعات التكفيرية والإرهابية، وربما سنجد من يطل علينا وينشر صورا للرجل تؤكد أنه كان وراء تفجيرات 11/9 /201 فى أمريكا.
الأزمة الحقيقية أننا أما صراع جديد يتخطى الصراع بن الحاكم والمحكوم وإنما صراع أخطر وهو صراع بين طبقات المجتمع نفسها.
صراع قدمه لنا نجيب محفوظ فى العلاقة المتوترة بين الفتوات ومجتمعهم وبين الحرافيش.. نجيب «أكد لنا فى كل رواياته أن الحرافيش تنتصر حين يكثر الظلم، وحذر كثيرا من غضبة الحرافيش؛ لأنهم إن تحركوا سيحرقون الأخضر واليابس».
حادثة خريج «التوك توك» تعكس إمبريالية استعمارية من نوع جديد هى إمبريالية واستعمار طبقة لطبقة أخرى.
تعكس نوعا جديدا من الاستبداد لم يكتب عنه الكواكبى ولم يكتب عنه أحد لأنهم لم يكونوا ليتصوروا أن ثمة كابوسا يمكن أن يحدث بهذا الشكل وهو استبداد طبقة على طبقة أخرى فى داخل المجتمع الواحد.
استبداد يجعل طبقة تقمع أخرى وتصادر آراءها.
استبداد يحشر الطبقة الفقيرة فى زاوية العبودية والموالى.
هذه الطبقة الاستبدادية الجديدة ستتحرك فى المستقبل لتكون وكيلة للديكتاتور السياسى، ووكيلا للسلطان الجائر.
ما عاد المستبد السياسى فى حاجة إلى «مسرور» السياف ولا إلى سيف الحجاج «فقد أصبح لديه» ملايين من مسرور، ملايين يصنعون سيوفا أكثر حدة من سيوف الحجاج.
واقعة خريج «التوك توك» كانت تستوجب أن تُستوعب ليس على طريقة الطبطبة و«السهوكة» وإنما تستوعب بما يعكس أن النخبة الحاكمة فى مصر ليست جزءا من صراع طبقى فى المجتمع.
تستوعب لتتم بعدها الانطلاقة لإعادة تضييق الفجوة والهوة بين طبقات المجتمع.
تستوعب لينبرى علماء الاجتماع والسياسة فى خلق عملية تنفيس للمجتمع المحتقن قبل انفجار لن يترك قادرا أو فقيرا، لن يترك حاكما أو محكوما لن يترك وزيرا أو خفيرا. المصدر أصوات مصرية