المغرب وإيران..حرب استخباراتية باردة ساحتها إفريقيا والدين ووقودها حزب الله والبوليساريو
المغرب وإيران.. حرب استخباراتية باردة ساحتها إفريقيا والدين ووقودها حزب الله والبوليساريو
في فاتح ماي من سنة 2018 قرر المغرب رسميا قطع علاقاته الدبلوماسية مع إيران، إذ طلب من سفيرها مغادرة الرباط، واستدعى سفيره من طهران، في خطوة كانت كلمة السر فيها هي الصحراء، حيث أعلن وزير الشؤون الخارجية ناصر بوريطة حينها أن الجمهورية الإيرانية تقدم دعما “ماليا ولوجيستيا” لجبهة البوليساريو الانفصالية عن طريق “حزب الله” اللبناني الذي يوفر أيضا تدريبات عسكرية للانفصالين.
لكن هذه الأزمة لم تكن الوحيدة في تاريخ العلاقات بين البلدين اللذين دخلا في أعقاب “الثورة الإسلامية” سنة 1979 صراعا مُعلنا، تغذيه محاولات إيران بسط نفوذها الاقتصادي والسياسي على منطقة غرب إفريقيا من مدخل نشر المذهب الشيعي، مقابل محاولات المملكة صد الاختراقات الإيرانية المتنامية في القارة السمراء وحماية النموذج السني الصوفي الذي تدافع على بقائه منذ قرون.
إفريقيا.. صراع العقيدة
وبرز هذا الصراع بشكل أكثر وضوحا منذ 2009 حين أعلن المغرب قطع علاقاته مع إيران، مركزا حينها على 3 أمور رئيسية، الأول يتعلق بالتهديدات الصادرة عن مسؤولين إيرانيين تجاه البحرين والتي اعتُبرت “ماسة” بسيادتها، والثاني هو دعم إيران لانفصاليي البوليساريو، أما الثالث فهو دور السفارة الإيرانية بالرباط في نشر المذهب الشيعي بالمملكة أو ما سمي حينها بـ”استهداف الأمن الروحي للمغاربة” وفق التعبير الرسمي.
لكن الصراع حول النموذج الديني بين البلدين لم يبق محصورا داخل حدود المغرب، بل إن صداه تردد خارجه، إلى المحيط القاري للمملكة، وتشعب في منطقة غرب إفريقيا، حيث الامتداد الديني والروحي والسياسي والاقتصادي للمملكة، خاصة مع تمكن إيران وحزب الله من التغلغل بقوة في نيجيريا، البلد الأكبر من حيث عدد السكان في القارة، هناك حيث تشير بعض التقارير إلى أن 7 ملايين نسمة من مسلمي هذه الدولة البالغ مجموعهم حوالي 90 مليونا، صاروا يعتنقون المذهب الشيعي.
ويحاول المغرب تفادي قيام نموذج آخر شبيه بحركة الشيخ إبراهيم يعقوب زكزاكي، التي تعرف إعلاميا بـ”حزب الله النيجيري”، وهي الحركة التي استفاد مؤسسها من دعم إيراني منذ 1979 ومن حضور قوي للآلاف من الشيعة اللبنانيين الموالين لحزب الله اللبناني في نيجيريا، بالإضافة إلى استفادته من صراع الدولة مع جماعة “بوكو حرام” السلفية السنية المتطرفة، في ظل خلو البلاد من قوة دينية سنية مُعتدلة توازن قوة زكزاكي الذي حظي بإشادة علنية من حسن نصر الله زعيم حزب الله.
ا
الشيخ إبراهيم يعقوب زكزاكي
وتبدو رغبة المغرب في عدم تكرار هذه التجربة في دول أخرى بالمنطقة واضحة، خاصة في الدول الفرنكفونية التي تربطها به علاقات اقتصادية وسياسية واجتماعية وطيدة، والتي تضم الآلاف من أفراد الجالية المغربية في القارة السمراء، مثل السينغال التي قال “المجمع العالمي لأهل البيت” إنها تضم نصف مليون شيعي، والكوت ديفوار التي أقامت فيها الجالية اللبنانية الشيعية إحدى أقدم جمعياتها الثقافية سنة 1977.
وبدا التوجه المغربي واضحا سنة 2015 من خلال إنشاء “مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة”، التي نص ظهير إحداثها على أنها ستعمل من أجل “المحافظة على وحدة الدين الإسلامي وصد التيارات الفكرية والعقدية المتطرفة”، بالإضافة إلى “حماية العقيدة الإسلامية والوحدة الروحية للشعوب الإفريقية من كل النزاعات والتيارات والأفكار التضليلية التي تمس بقدسية الإسلام ومقاصده”، قبل أن يفتح “معهد محمد السادس لتكوين الأئمة المرشدين والمرشدات” أبوابه لتدريب المئات من الطلبة الأفارقة على النموذج الديني المغربي الملكي المرتكز على العقيدة الأشعرية.
“المال” القادم من الشرق
لكن الصراع المغربي في منطقة غرب إفريقيا يمتد إلى مجالات أخرى في مقدمتها المجال الاقتصادي، ففي الوقت الذي أصبحت فيه المملكة توجه الكثير من استثماراتها نحو الدول الإفريقية، وجدت حضورا ماليا وسياسيا قوية لشيعة لبنان الذي يوالي عدد كبير منهم “حزب الله” وتُمثل استثماراتهم “غطاء” لتوفير الدعم له وفق ما كشفت عنه تقارير أمريكية.
ففي 11 يناير 2018 أعلن وزير العدل الأمريكي عن إنشاء وحدة قضائية خاصة للتحقيق في اتهامات لعناصر من الحزب بالتورط في أنشطة غير مشروعة تشمل الجريمة المنظمة وتمويل الإرهاب والاتجار في المخدرات وتهريب الأموال، تحت عباءة الأنشطة الاقتصادية عبر شبكة واسعة تشمل القارة الإفريقية، وحينها كشفت وزارة الخزينة الأمريكية أن من بين الطرق المستعمل في عمليات تبييض الأموال تصدير عشرات الآلاف من السيارات الأمريكية المستعملة لإعادة بيعها في القارة السمراء.
لكن الخط الأحمر بالنسبة للمغرب الذي تجاوزته الأذرع الإيرانية في المنطقة كان هو تورطها، عبر موالين لحزب الله، في تمويل جبهة “البوليساريو”، الأمر الذي أدى إلى إعلان الرباط قطع علاقاتها نهائيا بطهران مع خروج إعلامي لوزير الخارجية ناصر بوريطة أكد فيه أن المملكة تتوفر على “حجج دامغة تثبت تورط إيران عن طريق حزب الله وبتحالف مع البوليساريو، في استهداف أمن المغرب ومصالحه العليا منذ سنة 2016”.
ومن الأمور المثيرة التي تطرقت لها وزارة الخارجية المغربية، تشكيل “لجنة دعم الشعب الصحراوي” في لبنان برعاية حزب الله، ثم زيارة وفد عسكري من الجماعة الشيعية المسلحة نفسها إلى مخيمات تيندوف في الجزائر حيث تستقر قيادات جبهة “البوليساريو”، وهي كلها معطيات قال بوريطة حينها أنه أخبر بها نظيره الإيران جواد ظريف.
تاج الدين وموسوي.. كلمتا السر
وبالرجوع إلى تطورات الصراع المغربي الإيراني خلال السنوات الأخيرة، نلاحظ بروز اسمين لعبا دورا كبيرا في تعميق الأزمة، الأول هو رجل الأعمال اللبناني قاسم تاج الدين، أحد المتهمين بتمويل حزب الله من لدن السلطات الأمريكية، والذي حل بمطار الدار البيضاء 12 مارس من سنة 2017 على متن رحلة جوية قادمة من العاصمة الغينية كوناكري، لييتم اعتقاله وتسليمه إلى الولايات المتحدة الأمريكية تنفيذا لمذكرة اعتقال دولية بتهم تتعلق بتبييض الأموال ودعم الإرهاب.
رجل الأعمال اللبناني قاسم تاج الدين، أحد المتهمين بتمويل حزب الله (اعتقل في المغرب وسلم للولايات المتحدة الأمريكية)
ويبرز هذا الاسم بقوة في دوافع قطع المغرب علاقاته الدبلوماسية مع إيران، إذ اعتبر بوريطة أن اعتقاله كان “نقطة تحول” في العلاقات بين البلدين، فبسبب تسليم هذا الثري اللبناني الذي وصفه وزير الخارجية المغربي بأنه “أحد كبار مسؤولي مالية حزب الله في لبنان” إلى الولايات المتحدة، بدأ الحزب “يهدد بالثأر، وأرسل أسلحة وكوادر عسكرية إلى تندوف لتدريب عناصر البوليساريو على حرب العصابات وتكوين فرق كوماندوز وتحضير عمليات عدائية ضد المغرب، بالإضافة إلى إرسال صواريخ سام 9 وسام 11″، يضيف بوريطة.
أما الاسم الثاني، والذي فضل وزير الخارجية الإشارة له دون الإفصاح عنه، فهو الإيراني أمير موسوي، العنصر السابق في الحرس الثوري الإيراني وأحد أبرز الوجوه الإيرانية في الإعلام العربي، والذي كان في وقت بروز الأزمة مُلحقا ثقافيا في سفارة طهران بالجزائر، وحسب المعطيات التي حصلت عليها “الصحيفة” فإن هذا الأخير كان يلعب دورا استخباراتيا حساسا بين “البوليساريو” وحزب الله، وهو المشار إليه في حديث بوريطة عن “عنصر واحد على الأقل في السفارة الإيرانية بالجزائر المتورط في إرسال أسلحة للجبهة الانفصالية”.
أمير موسوي رجل المخابرات الإيراني الذي شغل تحت غطاء الملحق الثقافي بسفارة بلاده في الجزائر وحلقة دعم البوليساريو
ووفق تأكيدات الخارجية المغربية، فإنها حصلت على أدلة ومعطيات وتواريخ تؤكد تورط الرجل الذي كان مديرا لمعهد الدراسات الاستراتيجية بطهران، دون ذكر اسمه، في تنظيم العمليات المذكورة بين حزب الله والبوليساريو، والتي جرى إطلاع الخارجية الإيرانية عليها تزامنا مع قرار قطع العلاقات، ليعلن موسوي بنفسه بعد أقل من 5 أشهر على ذلك مغادرته لمنصبه في سفارة بلاده بالجزائر الذي شغله لمدة قاربت 4 سنوات.
تمدد التشيّع في المغرب عن طريق الزواج المختلط
تشتغل الاستخبارات الإيرانية بشكل كبير على دعم قنواتها المالية في غرب إفريقيا من خلال التجار اللبنانيين الشيعة المستثمرين في هذه البلدان، خصوصا في السينغال والكوت ديفوار والغابون.
وبتواجد المئات من رجال الأعمال من أصول لبنانية في بلدان غرب إفريقيا، مهد ذلك لـ”حزب الله” اللبناني، وبدعم مالي من إيران بِناء شبكة وقاعدة خلفية لتابعيه في هذه البلدان التي يتواجد فيها المغرب بقوة من حيث الحضور الديني عبر الزوايا، أو من خلال الاستثمارات الضخمة التي يقوم بها في هذه البلدان، وكذا لقوة جاليته الحاضرة في دول السينغال والكوت ديفوار والغابون.
وكل هذه المعطيات أفرزت شبكة من العلاقات الاجتماعية المعقدة بعد بروز العديد من حالات الزواج المختلط بين اللبنانيين من المذهب الشيعي ومن المغربيات العاملات في هذه البلدان وأغلبهن من المذهب المالكي على مذهب بلدهم المغرب.
وإن كانت علاقات الزواج المختلط بين المغربيات واللبنانيين قد أفرزتها الهجرة إلى هذه البلدان الإفريقية، فنتائج هذه الزيجات بدأت تقلق المغرب لاعتماد الأزواج اللبنانيين على تربية أبنائهم من المغربيات على المذهب الشيعي، وإدخال أغلب زوجاتهم لهذا المذهب، وهو ما يجعلهم قاعدة خلفية لنشر التشيّع بين الجالية المغربية في بلدان غرب إفريقيا، وكذا امتداده إلى المغرب عبر العلاقات العائلية والاجتماعية، وهو ما جعل الاستخبارات المغربية “لادجيد” تقوم بأكثر من تقرير ينبه لهذا التغيير المذهبي للمغاربة من الجالية في هذه البلدان التي أصبحت إيران تلعب فيها دورا كبيرا، ونزلت بثقلها المالي والديني، لجعلها أرضية خلفية لها للتوغل في إفريقيا، وخصوصا في منطقة الساحل حيث البلدان هشة أمنيا واجتماعيا.
كل هذه العوامل وأخرى جعلت بلدان غرب إفريقيا مسرحا كبيرا للصراع الاستخباراتي، بين المغرب وبين إيران، ظاهره كسب النفوذ السياسي والاقتصادي، وباطنه حرب دينية بين المذاهب حيث يدافع المغرب عن امتداده التاريخي والروحي في هذه البلدان معتبرا إياها عمقه الاستراتيجي الذي يجب أن يحافظ على النموذج السني الصوفي، في حين تعمل إيران لاستثمار المهاجرين اللبنانيين من خلال “حزب الله” لبناء شبكة نفوذ ديني يكون ولاء المنتسبين إليها لمرشد الجمهورية الإيرانية، علي خامنئي.
المصدر :