أخبارثقافة وفنونمقالات وآراء

إحسان عبدالقدوس.. الكاتب الذى صوَّب نحو صمت المجتمع وجموده

دكتورة اماني فؤاد

مِن قلْب ثنائية تمثِّل تناقُضًا حَديًّا عنيفًا، تَشكَّل وعى الروائى المبدع والصحفى (إحسان عبدالقدوس)، فلقد عايش ابن ثورة 1919- منذ تفتَّح وعيُه- تناقُضًا اجتماعيًا يعبِّر عن أزمة لم تزل مصر وكثير من الأقطار العربية الإسلامية يعانون بعض وجوهها، الصراع بين الأصالة والمعاصرة، بين المحافظة والأخذ بأسباب الحداثة والتطور، القطيعة مع التراث والعودة إليه والحفاظ على مقولاته كما هي.

مقالات متعلقة

  • وحيد حامد.. الباحث عن الحياة الحلم
  • قراءة على هامش «أرض الميعاد» لأوباما
  • «حظْر تجوُّل» فيلم فى مواجهة أسرارنا التى نمارس التعتيم نحوها

عاش «عبدالقدوس» مُوزَّعا بين قطبين، أمه (فاطمة اليوسف أو روز اليوسف)، الممثلة المسرحية، الصحفية القوية، التي أسّست مجلتَى «روزاليوسف» و«صباح الخير»، المرأة القادرة على الفعل وإثبات الكيان، الطَّموحة التي تمتلك الإرادة والقدرة على المواجهة واتخاذ القرارات، ترتاد الاجتماعات، وتناقش الأفكار التي تؤمن بها بجسارة، تضاهى الرجال في الوسط الصحفى، بل أقوى من الكثيرين منهم، وفى الطرف الآخر عمته، التي نشأ في كنفها في بيت جده عن أبيه، حيث سَعِدَ وهو طفل بعالمها المحافِظ في حدود بيتها وأولادها وزوجها.

كانت المرأة محورًا أساسيًا في أغلب نصوص «عبدالقدوس»، يجسِّد قضاياها المتنوعةَ في إطار حبْكةٍ تستثير القارئ وتصدم ممنوعاته، فلقد اشتغل على تقويض تابوه المرأة في المجتمع آنئذ، وحَرص على أن يتناول قضاياها الحقيقية، التي تمس عصب وجودها الإنسانى، رغب في رفْع الغطاء عن تجارب النساء المُحاطَة بالسرية والعيب، مثَّلت كتابته تلصُّصًا وبحْثًا وكشْفًا لجوانبها النفسية الداخلية، ورغباتها الحياتية والجنسية، تبصيرها لفهْم الحياة بطريقة إنسانية أكثر اتساعًا من حصْرها في الحب والزواج والبيت، أو الحياة اللاهية التي عاشتها الطبقة الراقية والوسطى العليا في خمسينيات وستينيات القرن العشرين.

كان سعْى «عبدالقدوس» لتحرُّر المرأة وفهْمها- على مستوًى آخر- رمزًا ومعادلًا موضوعيًا لرغبته في تحرير المجتمع ككل، ومعالجة مشكلاته الاجتماعية والثقافية، لقد جسَّدت المرأة في نصوصه قضية وطن، فمن خلالها ناقش تحرُّر الأوطان من الاستعمار، تحرُّرها من الفساد واحتكار فئة أو حزب واحد للسلطة والصلاحيات «الراقصة والسياسى»، جسَّد «إحسان» الثورة والحرب، والتحولات التي خاضتها مصر من مَلَكية إلى نظام جمهورى، ومن الآمال الكبار والطموحات مع ثورة يوليو إلى النكسة، ثم الانتصار في أكتوبر 1973. استنطق «إحسان» الأفكار المجردة الكبرى حول الحرية والعدل على لسان شخصيات من لحم ودماء تتصارع أمامنا وتتحاور، تبوح بأسرارها وتفصح عن المسكوتات «الطريق المسدود».

تتسع الصراعات في نصوصه من النطاق الخاص لحيوات النساء إلى الصراع الذي شغل الوطن، في كتابة مفعمة بالحكايات الغريبة السرية، الصادمة للكثيرين، السرد المكتظ بأشكال من الحركة والتطورات، والترقب والصور المفاجئة، التي تجعل القارئ شغوفًا ومتشوقًا، يطارد حروفه إلى آخر فقرة وكلمة من الرواية.

ربما بدَت تلك المقاييس ملائمة لنِسب التوزيع وعدد الطبعات، لكنها ليست معيارًا للقيمة الأدبية، لكن نصوص «عبدالقدوس» تميزت باللغة السَّلِسة المرنة، التراكيب التي تمسك بجوهر القضايا والمشاعر في جُمل واضحة وجريئة، صياغات تتمتع بالقوة والجسارة في تناول الحياة العاطفية والجنسية لأبطاله، كما تمتعت بسَرْد درامى متماسك، ضمن حبكة عاطفية تشويقية، في مشاهد تعتنى بالتفاصيل، التي تجعل النَّص محفِّزا لتقديمه سينمائيًا، فلقد آمن «إحسان» بأن السينما من أهم المنابر، التي توصل رسالته لتغيير النسق الثقافى للمجتمع.

عَشِقَ «إحسان» المواجهة، وأجاد تعرية المسكوت عنه، حتى على مستوى تحقيقاته الصحفية وكتاباته، التي بسببها تعرَّض للاعتقال والسجن عددًا من المرات، كان يعبِّر عن روح مصر التنويرية الطموحة، التي تسعى للتحرُّر والتخلص من الاحتلال، ثم إلى التهيئة لثورة اجتماعية وثقافية، يتحرر فيها نصف المجتمع من قيوده، واقتصار النظر إليه في نطاق جسدانيته، أراد إطلاق طاقات المرأة لتمارس كافة قدراتها البشرية، لتشارك في بناء البلد الذي ينهض.

كتَب إحسان عبدالقدوس أكثر من 600 نَص روائى وقصصى، تحوَّل أكثر من 75 نَصًا منها إلى أعمال سينمائية وإذاعية وتليفزيونية، وحرص على متابعة نصوصه وهى تتحول إلى أعمال درامية، كما شارك في كتابة سيناريو بعض رواياته.

في ثقافتنا دائمًا ما تنطلق مقولات، وتتحول إلى حقائق ومسلمات مع الوقت، في حين أن الكثير منها: إما أنها مبتسَرة؛ لا تحيط بالظاهرة في مناظيرها المختلفة، أو أنها مُغْرِضة؛ أطلقها البعض في نوع من الحرب الخبيثة، وهو ما تعرض له «عبدالقدوس» حينما أطلقوا على أدبه «أدب الفِراش»، أو أنه لم يكتب سوى عن المرأة، والطبقة العليا والمتوسطة، لقد جسَّد «إحسان» أفكاره المجرَّدة في نماذج متنوعة من النساء والرجال، وفى طبقات مختلفة وُسطى وشعبية «لن أعيش في جلباب أبى»، كما رَوى ما خبره واستمع إليه في نماذج من الواقع.

وأحسب أنه- من خلال تجاربه وثقافته وكتاباته- توصَّل إلى أن الوعى والإرادة والاختيار تُعَدّ الأدواتِ الحقيقيةَ، التي تُمكِّن المرأة والرَّجُل من الحفاظ على كينونتهما، والارتقاء بها بجوار الأدوار والمعانى الطبيعية في الحياة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى