د. أماني فؤاد تكتب .. بعض ساعات إضافية فقط
د. أماني فؤاد
أصبحتْ تتعرف الأيام فقط حين تنفَدُ كبسولات الأدوية من شرائطها، أو حين يصر الأطباء على إجراء تحاليل وإشاعات جديدة بعد جرعات العلاج الكيميائي، وقتها تدرك أنه قد مَرَّ شهر على الحياة المعجونة بالألم، أما حين يتعيَّن أن تدخل التابوت، الذي عليها أن تكتم أنفاسها فيه تماما؛ كانت ترى الموت يلوِّح لها ساخرا كل مرة، فترجو الله أن ينهي بروفاته المتكررة تلك.
بالأمس رأتْ نعيَها في إحدى الجرائد، وحين استيقظتْ؛ أرادتْ التأكد؛ فهرولتْ إلى هاتفها وفتحتْ الصحيفة، وجدتْ أنها بالفعل قد ماتت، وأن أهلها لم يبخلوا عليها بنَعْي لائق، راجعتْ جوَّالَها سريعا لتتأكد من التاريخ؛ فوجدتْ أنها قد دُفنتْ أمس، تساءلتْ: إذا كنتُ الآن في أحد القبور؛ فمن تلك التي تدرك موتها وتحيا؟
ذهبتْ إلى المرآة؛ فتعرفتْ على نفْسها، لاحظتْ فقط نضارة وجهها، واختفاء الهالات السوداء من تحت عينيها. تحسستْ صدرها؛ ففرحتْ حين وجدتْ ثديها جهة الشمال، الذي كانت قد فقدتْه في إحدى الجراحات، توارتْ أيضا عظام وجهها، وعادتْ فيه الدماء.
لا تدري ماذا تفعل، لقد ماتت كما يذكرون، فما هذا الوجود الذي تحياه، وكيف ستخطو بداخله؟
ارتدتْ ملابسها سريعا، حرصتْ على أناقتها كما اعتادت قبل مرضها، أحسَّتْ بالراحة حين لم تحتج أن تضع الجزء التعويضي في حمالة صدرها، أعدَّت قهوتها، ونزلت إلى سيارتها، لكنها تساءلتْ: أين أهلها؟ لم ترَ أحدًا منهم.
تذكرتْ ما ألحَّ عليها منذ أسابيع؛ لكنها لم تقوَ على فِعله أو البوح به لأحد، كان يتعيَّن عليها – قبل أي شيء تقوم به – أن تعرف أين يكون، ذهبتْ إلى المستشفى، ومشَتْ في الممرات، التي كثيرا ما قطعتْها على الكرسي المتحرك.
اندهشتْ وهي تشعر أن عالَمَها كله أخفُّ بصورة ما، لم تطرق باب مكتبه؛ دخلت مباشرة، كان على كرسيه، ويحيطه اثنان من الأطباء المتدربين، ربما رأتْ أحدهما من قبل.
توجهتْ إليه مباشرة، وصفعتْه بكامل قوَّتها، كما لم تفعل أبدا من قبل، ثم بادرته بصفعة تالية، رأت في عينيه هلعا لم ترَهُ قَطْ، واجهتْه قائلة: لا خلاق لك، شعرتُ بيديك وأنا أفيقُ من البنج في العملية الأخيرة، لو أنني نعتُّكَ بحيوان؛ لظلمتُ هذه الكائنات النقية، أقل ما تستحقه الموت، جعلتَني أكره جسدي المريض، الذي لا حول له ولا قوة.
بعد أن خرجتْ لم تشعر أن من معه كان لهما أيُّ رِدَّة فِعل؛ هو فقط.
سرحتْ؛ لا تعرف من هي، هي أيضا لا تعرف عن اللحظة القادمة أيَّ شيء.
ثلاث سنوات مَرَّتْ وهي تتساءل: لماذا تركها خطيبها مع المرض تصارعه بمفردها، ذات يوم كان أقرب البشر إلى قلبها، لوهلة فكَّرتْ أن تذهب إليه، لكنها لا تعرف أين هو الآن؟
فتحت جوَّالها وبحثت عنه؛ لم تصل لشيء، أجرت اتصالا، وظلَّتْ تتحدث دون أن تتلقى أيَّ رَدٍّ، لعلها صارتْ غير مسموعة أو مرئية للبعض!
توجهتْ إلى بيته القديم، الذي تعرفه، طرقتْ الباب، لم تتوقع أن تجده، حين فتح ورآها؛ صمتَ للحظات طويلة، فكَّرتْ: ربما لا يراها، لكنها لمحت في عينيه تلك النظرة، التي كان يحتضنها بها أيام عشقه.
لا تعرف لماذا لم تزل تبحث عنه؟ حين عرف بمرضها؛ صمتَ تماما وذَهَبَ.
حين ماتت أمها؛ لم تكن قد أحبَّتْه، وحين غادرها؛ جلستْ أمام قبرها وحَكَتْ لها أنها لا تصدِّق أنه تركها وقت احتياجها الشديد له، كانت تعرف أن أمها ستقول لها ألا تبادره، وأن تعتاد غيابه، وأنها سترد في كل مرة: إنها لا تستطيع.
مرقتْ من جواره، أغلقتْ الباب، قالت له: لم أصدِّق حتى الآن أنك تركتَني؟
لم يُجِبْ؛ ضَمَّها فقط إلى حضنه، وظلَّتْ دموعه تتساقط، دفنتْ نفْسها في صدره كما كانت تعشق، إلى أن سمعتْه يقول: منذ تركتُكِ؛ صارت تكلفة الوجود في هذه الحياة ثقيلةً، ضعفتُ، لم أقوَ على رؤيتك تذبلين أمامي يوما بعد آخَر، وحين تراجعتُ وقررتُ أن أعود لأكون بجوارك؛ خشيتُ من رفضك لي. ابتعدتْ عنه، نظرتْ في عينيه طويلا، صمتتْ وهي تراه يتضاءل أمامها، تركتْه دون كلمة واحدة ورحلتْ.
ظلتْ تنظر للوجود من حولها، ولا تعرف من هي، عرَّجتْ على قبر أمها، همستْ لها ببعض كلمات لم تبُحْ لي بهم أبدا، فقط ذكرتْ أنها لا تفضِّل أن تظلَّ في الأرض، حلَّقتْ إلى أن ذهبتْ إلى البحر؛ فطَوَتْها أمواجُه سريعا.