مقالات وآراء

قَضَمَ أحدُهم ثُلَثَ منقارِه الأصفر..

د. أماني فؤاد
ــ في اللحظة الأثيرية؛ ما بين اليقظة والنوم، يحدث أن ينهار جدار مرصوص من الكتب؛ فيتناثر جسدي بين الأغلفة والصفحات. أنظر من النافذة؛ فأجد البحر في مواجهتي تماما، يجتاح فِراشي، ويضرب – بعُنفٍ – رأسيَ المتعَب، يحدث أن أصحو لأُخرِج قِطَعَ الزجاج من عينَيَّ ومسام وجهي. أن أرى في منامي طائرًا رماديًّا ينظر نحوي بحزن، فقد قَضَمَ أحدُهم ثُلَثَ منقاره الأصفر الكبير، يحدث أن أُمْسِكَ بعصا موسى، وأن أُخَلِّقَ بحرَين، ومنقارين، وأن ألملم شظاياي، وأقذِفَها نحو خلاص لا يأتي، أقذفها؛ فتَضِلُّ طريقها.
“2”
ــ كلما وجدتُ أعلى هاتفي علامة التطبيق، الذي أوصيتَني بتنزيله؛ علا صوتُ قلبي، واشتدَّ خفقانه، مباشرة كنت أرجح أنه أنت، مع الوقت خيَّم على شاشتي اليأس، تُراه الموت!؟ صرتُ لا أكترث مهما تعددت العلامات، أدركتُ بمرور الأيام أنني توهمت إحدى القصص؛ وصدَّقتُها، فإن بدت صورتك أعلى الهاتف، أو قرأتُ اسمك؛ أقصى ما يمكن فعله أن أسرع نحو حاسوبي لأُسوِّدَ بعض الأسطر، ربما سأحكي عن كائن الحبَّار، عن سحابات العتمة التي ينشرها من حوله، أحكي عن الصمت، هذا الكائن المُلغِز، وما خلْفَ بواباته من حِمَم الأوهام، دوامات هادرة تلهو بها الرياح. ربما سأحكي أيضا عن الطاقة التي نبذلها ونحن ننتظر الذي لا يأتي.
الذي لا يأتي اسمه ليس (جودو)، ولا يمُتُّ بصِلَةٍ لـ (صمويل بيكيت)، سأحكي عن الكتب التي نعشقها ولا نستطيع أن نقرأها أو نمتلكها، عن الكلمات التي رغم تداوُلِها؛ تفقد دلالتها وجَرْسَها وجدواها، أنقل لك ــ إن أردت ــ الكثير عن الفقد.
“3”
ــ في كل مرَّة ذهبتُ إليكِ، كنتُ أتوقف كثيرًا أمام الشرخ الطولي في وحدات الجرانيت الثمانية، التي تغطِّي قبْرَكِ، هذا الشرخ المنحنِي طالما أوحى لي بالهبوط إليكِ، تمنيتُ أن أجيئَكِ فلا أجد أحدا بالمكان، وددتُ لو حدَّثتُكِ بصوت عالٍ وسألتُكِ: لماذا؟ لماذا استسلمتِ سريعا؟
كيف رضيتِ باختصار قِصَّتِنا في تعويذة موت، في تلك المقبرة انقطعت كل الطرُق، هنا لم نعد نقتسم كوب القهوة وأطباق الطعام، لن يرتفع صوتك بالغناء في السيارة وأنتِ بجواري، لم نعد نخطط معا كيف نواجه رفْضَ الجميع لنكون معا، لن ألمح كبرياء غَيْرتكِ حين تضيقين بنظرتي لإحدى النساء، لماذا وأنا لم أزَلْ أمشي معك في الشوارع أتلفَّتُ بجواري؛ فلا أجدك، لم أزل أختار لون ملابسي التي تفضلينها، بالرغم من أنني أعرف أنك لن تَرَيها، أبحث عن نظرة إكبار من عينَيكِ كلما أنجزتُ شيئا، ألهث لأعود إليك، في الطريق أنتظر مهاتفتَكِ، لكنكِ تُطِلِّين فقط من أعمدة الإنارة، وتلمعين في عيون القطط، ودوما تنسابين مع معاني العشق في الأغنيات دون أن ألمسك. أنا أبحث عنكِ، عنك أنتِ. 
“4”
 ــ هنا أدركتُ ما لم أُدرِكْه سابقا، أنا صرتُ عَدَمًا، أرجو أن تغلق بوابة أحلامك، وألا تحكيَ لي شيئا، لا تأتيني مرة أخرى، أو تطلب رأيا، أنا لا شيء، لا تُحضر معك الورد، ولا حقيبتي أو معطفي المفضَّل، لن ألمسَهم، أنا لا أشمُّ ولا أرى، الظلام هنا لا ينفد. 
يحدث ألا نقْبَلَ بالفقد، لكنه يصفعنا مباغتة، لن أختبئ بصدرك بعد عراكنا، لن أشاكسك حتى لمرة أخيرة، لم أعد سوى ذِكرى، في أيام تسيل فيها الحياة، ويتسرب من بين أصابعها معنى الأشياء، نراها واضحة؛ تلك القبور التي تتحرك بيننا في الطرقات والبيوت، في الكتب، فوق الشاشات الباردة، نحن محاطون بالأموات، لا تأتيني هنا مرة ثانية ولا تحكي لي؛ فالطائر قد اختفى، أتوا عليه للنهاية.


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
%d مدونون معجبون بهذه: