مقالات وآراء

في مديح الحميمية

د. أماني فؤاد
لماذا يحفر أحدهم في قلبك بصمات روحه وشخصيته في حين يعبرك كثيرون بلا أي أثر؟ كأنهم بالأساس لم يمروا بحياتك، أو لم يؤسسوا لمجرد حيز صغير يبقى في ذاكرتك.
لماذا تستقر عاطفة بالوجدان ولا تفارقك أبدا، وتذهب تجربة أخرى حتى تتلاشى وتختفى تماما وكأنها لم تكن يوما؟
قرأت في الأسابيع الماضية ما يزيد على خمسين نصًا روائيًا، ولاحظت قدر التشوهات التي صارت سمة لمعظم العلاقات البشرية، وغلبة الشق المادى، والفردية والأنانية المفرطة التي تضخمت لدى كل طرف من طرفى أي علاقة حب أو ارتباط، وانطلاقًا من أن السرد الروائى تمثيل جمالى للحياة، وموازاة رمزية لها، تساءلتُ: هل أصبح الإنسان يبحث عن نمط عيش يجعله يبقى فقط على وجه الحياة، يستهلكها كما يستهلك ذاته، أم يبحث عن السعادة من خلال مستوى نوعى من التواصل، وما هي الخصوصية التي تميز الحب عن بقية المشاعر الإنسانية الأخرى؟
الحميمية في الحب حالة لا تحدث إلا نادرا، هذا الاقتراب والتداخل حد الوصول إلى التوحد، حد ملامسة جوهرنا العميق والمستتر وإبراز أجمل ما به، درجة من الاقتراب الذي تلمسه في استعذاب كل حبيب للمذاق الخاص والمميز للطرف الآخر الذي لا يتكرر، عشق خصائصه الفردية والاحتفاء بها، تثمين فرادتها وقدرتها على جعل العالم أكثر احتمالا وجمالا. كأن يعشق الحبيب رائحة حبيبته لا عطرها، أو عطرها ممتزجا برائحتها. أو تعشق المرأة نبرة صوت حبيبها، شعورها بطاقة كلماته والحياة التي تستمدها من روحه ومزاجه، فتشعر بفرحه وانطلاقه أو حزنه وانسحابه، الوصول إلى درجة من الألفة التي تجعل الحبيب يحسن فهمك حتى عندما لا تجيد التعبير عن نفسك.
أن يلمس الرجل في حبيبته جمال عقلها وحلاوة الحوار معها، قدرتها على إضحاكه وتمرير صعوبات الحياة بسلاسة دون الغرق بثقلها ولزوجتها، عينيها اللتين تلمعان له بمزيج من الدلال والدفء.
الحميمية أن يبحث الحبيب عن مناطق الضعف في الطرف الآخر فيطببه راضيا؛ لينعش روحه لا أن يتركه بمجرد شعوره أن هناك عبئا سيقع على كاهله. ونلمس تلك الحميمية مع شخص بعينه حين لا تنقضى الأحداث التي مرت معه وتتلاشى مع الزمن، بل تظل باقية تتجسد بالذاكرة مهما مرت الأيام والسنوات.
يحدث أن تشعر بانجذابك لشخص منذ اللقاء الأول دون أن تعرف سببا محددا، لحظة استثنائية من الدهشة الممتعة، من الألفة والراحة الداخلية التي تجعلك تنسحب لذاتك لتنفرد بها وتعاود تحسس روعة هذا اللقاء بعيدا عن البشر، ثم تعلو على تلك المرحلة المبهمة وتتجاوزها بعد أن تدرك أسبابا لاستمرار توهج هذه المشاعر كلما ازددت معرفة به، خصاله وطريقة تناوله للحياة وأسلوب عيشها، وقتها فقط نقترب أكثر، ويظل نظرنا شاخصا إليه مستمتعا بهذا الوجود الذي اقتحم عالمنا وزلزله، حينئذ تتخلق درجة رفيعة من التواصل ترتقى لمعرفتك لما يمر به من مجرد نظرة إلى عينيه، فتستشعر أعماقه مباشرة، وتتكشف انشغالاته وهواجسه أمامك.
الحميمية أن تهوى ما يفعله ويقوله فتشعر بذوبان حبيبك بداخلك حتى إنك لم تعد تعرف أين نهايتك من بدايته، أو نهايته من بدايتك.
الحميمية شعورك أن عينى حبيبك مفتوحتان لك مثل البحر والسماء، عيون تسعك، وتسع حالات فرحك وغضبك، تبحث عن تفاصيلك وتستعذبها، فترغب أن تتكور فيهما وتستكين، تجلس في دفئها وتتكئ على وسائدها.
تلمس هذه الحميمية حين يُختصر العالم في هذا الحبيب، فكل مشهد تراه ويروقك تتمنى لو أنه معك لتستمتعا بالجمال وتزهو به اللحظة، ويظل كل شىء منتقصا طالما كان الحبيب بعيدا. وحين تسمع لحنا أو أغنية تستشعر أن تلك المعانى مكتوبة من أجله فقط، ولا تليق إلا به.
الحميمية ألا تشعر بأى إنجاز أو نجاح إلا منعكسا على صفحة عينيه، يعيشه معك ويرضى عنه، ولو مررت بموقف قلق يتأزم فيه عالمك تشعر أنك لن تنال الراحة إلا حين تفضفض له؛ لأنه وحده القادر على طمأنتك.
الحميمية أن تشعر بصغر ومحدودية ما يتسبب في شعورك بالضيق منه، بعدم صموده أمام فيض مشاعرك له، وتضاؤله أمام بقية خصاله الجميلة، فمهما تقارب البشر يظل هناك بعض الاختلافات، تصل لدرجة الحميمية حين تحبه كما هو.
الحميمية أن تجد الحبيب أحرص الخلق على راحة حبيبه، يسهّل له تفاصيل عمله وحياته بالقدر الذي يستطيعه، بل قد يفوق استطاعته أحيانا، لكنه يعتنى بكل ما يخصه حد تفضيله على نفسه واحتياجاته، الاهتمام بكل ما يحيط الحبيب حد قضاء بعض المهام عنه، والاعتناء بأشيائه وصيانتها وإصلاحها، فللعطاء للحبيب لذة، والحميمية فقط هي ما تضمن بقاء الشغف والعشق وتأصلهما في ذات المحب، ونستكمل في المقال القادم، فتجربة المحبة ليست سلعة تستهلك وتنقضى لنبحث عن غيرها، كما أنها فردانية لا تخضع لثقافة الجموع.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى