مقالات وآراء

القضاء العرفي ودورة في المجتمع

الدكتور عادل عامر
إن للقضاء العرفي قوانين خاصة تختلف عن قوانين الدولة، فهو يعتمد في أحكامه على العادات والتقاليد والبعد الاجتماعي، وقواعده غير المكتوبة توارثتها الأجيال، ويلجأ أبناء سيناء إليه لسرعته في إصدار الأحكام بعكس القضاء الرسمي الذي قد ينظر في قضية لسنوات طويلة.
إن «القضاء العرفي لا يتعارض مع القضاء ولا يلغى القانون الوضعي بل يساعده ويعاونه، ودور الأمن مهم جداً فهو يتحرك معنا خطوة بخطوة، فمكاتب القيادات مفتوحة لنا باستمرار، وفى أي خصومة أو نزاع يكون هناك طرف باغٍ يجب تحجيمه، وآخر مجنى عليه نسعى لرد كرامته، وأحياناً يرفض أحد أطراف الخصومة قرارات اللجنة ويلجأ للشرطة،
 وهنا يشعر بالفرق، لأن لجان المصالحات تعمل على الأرض وتبذل جهوداً مضنية للتوفيق، كما أن هناك خصومات لا تجنح للسلم، وتشعر بغضاضة من الصلح، لأن البعض يغرر بهم، وهناك من يرفض الصلح العرفي أصلاً ليس طلباً للاحتكام للقضاء ولكن سعياً للثأر».
إن القاضي العرفي ، كثيرا ما يتعرض إلي مؤثرات خارجية وتدخل من جانب أقارب وأصحاب وأطراف لها تأثير بالضغط الاجتماعي، لكن شخصية القاضي هي التي تجعله يتجنب هؤلاء الدخلاء ويتلاقى أي مؤثرات خارجية ليخرج بالجلسة إلي بر الأمان .
وللسيطرة علي الخصوم و سخونة الجلسة ، يفضل أن يكون حافظا للقران والأحاديث النبوية الشريفة خاصة وأنه يتم سرد قصص مماثلة وأحكام سابقة، وأحاديث نبوية, وآيات قرآنية قبل الاستماع إلي حجج أطراف النزاع ، وذلك بهدف الوصول إلي نقطة قبول للأحكام التي تصدر عن الجلسة.
كانت جلسات الصلح العرفي المنعقدة لاحتواء النزاعات والاعتداءات الطائفية ـ ولا زالت ـ موضوع ًا لانتقاد أطراف متعددة من مؤسسات رسمية أو شبه رسمية كالمجلس القومي لحقوق الإنسان، وأخرى حزبية، علاوة على هجوم أصوات متعددة في المجتمع القبطي بشكل عام وأصوات من الكنائس المصرية على وجه الخصوص.
 ووفقًا لهذه الانتقادات، فهذه الجلسات تشكل بحد ذاتها افتئاتًا مقلقًا على سيادة الدولة ونظامها القانوني ومبادئ المواطنة وعدم التمييز. ونقطة البدء لحل هذه النزاعات الطائفية تتمثل في التطبيق الفوري لأحكام الدستور والقانون ذات الصلة بهذه النزاعات دونما تمييز أو انتقاء.  ولم ّا كانت المبادرة المصرية للحقوق الشخصية مهتمة بصفة خاصة برصد وتوثيق وتحليل أنماط الانتهاكات التي تتعرض لها حريات الدين والمعتقد وما
يرتبط بها من حقوق دستورية أساسية، كان من الطبيعي أن ي َنصبّ اهتمامها على متابعة أنماط اللجوء إلى هذه الآليات المجتمعية وآليات عملها الداخلية
ومخرجاتها وتقييم ما إذا كانت تشكل ضمانة مجتمعية إضافية لتفعيل النصوص الدستورية وسد العجز في آليات الدولة الأمنية والقضائية، أم أنها تشكل مصدرًا إضافي ًّا لانتهاكات هذه الحقوق. ويكتسب هذا التحليل أهمية خاصة في ظل ما رصدته المبادرة في تقاريرها الدورية من ارتفاع غير مسبوق في وتيرة اللجوء إلى المجالس العرفية كآلية بديلة لاحتواء النزاعات الطائفية والحد من انتشارها عقب قيام ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011 .
وعلى الرغم من انطلاقنا من رؤيةٍ للقضاء العرفي كآلية مجتمعية مهمة في حل نزاعات مدنية، قد تلعب دورًا محوريًّا بفضل ما تتمتع به من شرعيةٍ وسرعةٍ في نفاذ قراراتها وفي سد فجوات في عمل أجهزة الدولة الأمنية والقضائية المتعثرة أصل ًا منذ يناير 2011 ،إلا أن هذه الآلية منذ نشأتها وحتى الآن قد ساهمت في تعميق النزاعات الطائفية وليس احتواءها، وتحولت بنفسها إلى مصدر إضافي لانتهاكات متعددة لحزمة من الحقوق الدستورية الأساسية للمواطنين.
فآلية عمل هذه المجالس تفتقر إلى أبسط ضمانات فاعليتها وشرعيتها وهو مبدأ القبول المتساوي بها من قِب َل جميع أطراف النزاع وعدم اللجوء إلى القهر كسبيل للقبول بأحكامها، وهو أمر جوهري وإلا تحولت إلى بديل لنظام العدالة القائم يستنسخ نفس أوجه قصوره. أما مخرجات هذه المجالس
فقد أتت مغايرة للقواعد العرفية المتعارف عليها، ناهيك عن كفالة الحقوق المتساوية المنصوص عليها دستوريًّا. وتقتضي هذه النتائج ضرورة تفعيل الآليات القانونية والقضائية المتعارف عليها وضرورة العمل مع مؤسسات الحكم المحلي والمؤسسات الدينية والقوى الحزبية والأهلية المختلفة لتحويل المجالس العرفية عند اللجوء إليها إلى آلية لدعم الاندماج الاجتماعي أكثر من كونها عامل ًا مساعدًا في تعميق الانقسام على أسس طائفية.
تركز هذه الدراسة في الفترة من يناير 2011 َ حتى الآن، باعتبارها الفترة التي شهدت تحولات دستورية وسياسية وثقافية عميقة بش ّرت جميعها بإمكانية تصفية مظاهر التمييز السائدة اجتماعي ًّا والمحصنة دستوريًّا وقانونيًّا وتقديم ضمانات لممارسة حريات الدين والمعتقد وما يرتبط بها من حريات وحقوق. كذلك اتسمت هذه الفترة بتعثر واضح في عمل أجهزة فرض القانون والأمن، وصل في كثير من الأحيان إلى العجز الكامل عن القيام بمهامها الموكولة إليها دستوريًّا وقانونيًّا. 
ونتيجة لهذه العوامل كان من الطبيعي التركيز في هذه السنوات الأربع على وجه الخصوص بوصفها مؤشرًا على مدى تجذر أوجه التمييز المختلفة اجتماعي ًّا، وكذلك في إمكانيات تجاوزها مستقبل ًا والعقبات التي تعترض طريق هذا التجاوز، ومنها بالطبع التوتر بين دُور العرف وقانون الدولة.
لا غبار على وجود آليات اجتماعية على النطاقين المحلي والقومي تساعد في تطويق النزاعات والاعتداءات الطائفية، فمثل هذه التدخلات مهمة ومطلوبة. لكن في جميع الأحوال تبقى هذه الأشكال متجاورة مع وسائل التدخلات القانونية التي يتمتع بها المواطنون، ومن واجب الدولة
أن تحرص على تطبيقها، وضمان توفرها، وحماية من يلجأ إليها من أي عدوان على حقوقه الأخرى.  بطبيعة الحال، لعبت الجلسات العرفية دورًا كآلية لتهدئة الاحتقان الطائفي في عدد من الحالات، ووضعت حدّا لتفاقم هذه الاعتداءات ومنع انتشارها على نطاق واسع، لا سيما في ظل انتشار عوامل الفرز الديني والطائفي واستخدام ذلك لحشد الأنصار والمؤيدين وتحريضهم للاصطفاف في هذا الاستقطاب. ً لكن هذا الدور كان أيضًا عامل ًا رئيسيّا في تكرار وتجدد الاعتداءات الطائفية. 
ونعرض لعدد من الأسباب التي أفقدت الجلسات العرفية دورها الأصلي:
1 – بمرور الوقت تحولت هذه الجلسات إلى ما يشبه النظام القضائي الذي يصارع نظام العدالة الرسمي، وأصبح الصلح العرفي بوابة للهروب من تنفيذ القانون، ذلك لما تتضمنه هذه الجلسات من فرض الجانب صاحب الحضور القبلي والعشائري لشروطه، وهي الشروط التي وصلت في بعض الأحيان إلى النصّ ِ صراحةً على عقوبات لمن يستخدم حقه الدستوري والقانوني في اللجوء إلى القضاء لجبر الضرر. وللأسف اشترك بعض القائمين على منظومة العدالة في هذا المسلك بعدم تطبيق القانون والقبول بمحاضر الصلح العرفي دون النظر في خطورة الجرائم المرتكبة، التي وصلت إلى القتل وحرق ونهب الممتلكات العامة والخاصة ودور العبادة وحيازة الأسلحة النارية وغيرها من الأفعال المج َرّمة في قانون العقوبات المصري.  أساسيّا يتوقف عليه فعاليتها في احتواء النزاعات الطائفية وهو رضى طرفي الخصومة باللجوء إلى جلسات
2 – افتقدت هذه الجلسات مبدأ الصلح العرفي. وكما عرضنا في عديد من الحالات، فقد قامت الأجهزة الأمنية والتنفيذية والأطراف الأقوى باستخدام لسلطاتها للضغط على الأطراف الضعيفة للمشاركة وحضور هذه الجلسات التي عقدت بشروط الطرف القوي، فأصبحت مؤسسات الدولة التي يفترض بها أن تحمي حقوق مواطنيها طرفا في الخصومة.
3 – تعاملت الجلسات العرفية بطريقة سطحية مع مظاهر وأسباب النزاعات الطائفية، فبدلًا من البحث عن جذور المشكلة على النطاق المحلي ومحاولة حلها اكتفت فقط بمحاولة إطفاء نار الاعتداءات ولو بشكل مؤقت دون النظر في وضع شروط عدم تكرار تفجر الأوضاع مرة أخرى.  فلم تتبنَ باستثناء جلسة واحدة سبق الإشارة إليها أية أنشطة ثقافية أو اجتماعية أو سياسية تساهم وبشكل تلقائي في خلق أرضية للاهتمامات والحوار المشترك بين المواطنين. هذه النزعة للتبسيط تعمل بمرور الوقت على مراكمة المشكلات والاحتقان وشعور مجتمع الأقباط بفقدان الثقة في مؤسسات الدولة.  ُ في عَرف من؟: دراسة عن دور الجلسات العرفية في النزاعات الطائفية ومسئولية الدولة 
4 – تضمنت قرارات بعض الجلسات شروطًا جائرة وغير معتادة، منها ما ألزم أهالي قرية بمحافظة المنيا بعدم الخروج من منازلهم حتى للعمل أو شراء متطلبات من خارجها لمدة 15 يومًا أو تلك التي عينت لجنة من الخصوم لبيع ممتلكات عائلة مسيحية، حُكم بتهجيرها من قرية شربات بمحافظة الإسكندرية. كما صدرت قرارات أخرى تمثل انتهاكات جسيمة لحقوق كفلتها المواثيق الدولية لحقوق الإنسان والدستور المصري، وذلك في حضور مسئولي الدولة، منها حرية الدين والمعتقد وممارسة الشعائر الدينية والرأي والتعبير وحماية الم لكية واللجوء إلى القضاء، بما يمثل تقنين ًا للتمييز المجتمعي وتطييفًا دينيّا للمواطنين.
5 – أصبح تنظيم وقيادات هذه الجلسات حكر ًا على مجموعات بعينها إما قريبة من مؤسسات الحكم المحلي أو الحزب الحاكم السابق أو صاحبة نفوذ مالي وقبلي في المنطقة، فعلى سبيل المثال لعب أعضاء الحزب الوطني المنحل هذا الدور قبل ثورة الخامس والعشرين من يناير ثم تحول إلى أعضاء جماعة الإخوان المسلمين والجماعة الإسلامية فيما بعد الثورة، وعاد مرة أخرى بعد عزل محمد مرسي إلى كبار العائلات وأعضاء مجلس الشعب السابقين، فقد غلبت الرغبة في استخدام سياسي لهذا النوع من الجلسات من أجل تحقيق شعبية سواء عند المسئولين أو لدى الأهالي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى