مقالات وآراء

فقه دغدغة العواطف وترسيخ الأوهام

د. أماني فؤاد 
من خصائص الحداثة أنها طريقة تفكير تعى معنى تاريخية الظواهر واختلاف العصور، بمقدورها أن تفرق بين «النص» القرآن والسنة الصحيحة المؤكدة، و«سلطة النص» أى الفهم البشرى للنصوص الذى أنتج ما يطلق عليه «أمهات الكتب» حين فُسر النص وفق أفق الذهن الإنسانى، ومعطيات لحظته التاريخية بنسقها الثقافى الذى يختلف حتما فى كل مرحلة تاريخية.
الحداثة رؤية تضع التراث فى حجمه وتخضعه لإعادة الفحص والتقييم، تثمن ما به من معالجات مضيئة للقضايا البشرية أنارت للإنسانية طريقها، وعُدت فى وقتها ثورة على القيم الأقدم، وتفكيك معالجات أخرى لم تعد تصلح لهذا العصر وبيان عوارها.
فمن المؤكد أننا جميعا نرفض رفضا قاطعا الرق أو العبودية الذى ضيق نوافذه الإسلام لكنه لم يلغه تماما تماشيا مع لحظته التاريخية الاجتماعية- والاقتصادية الثقافية التى نزل فيها. نستنكر ألا يحسم أمر تقيد الطلاق الشفوى، وضرورة توثيقه للحد من نسب الطلاق التى تجاوزت السبعين فى المائة فى أول سنتين من الزواج لحماية الأسرة وعدم تفككها.
نرفض أيضا إجازة دم ومال الآخر لمجرد أنه مختلف فى الديانة أو العرق، أو حتى إلزامه بالدية، فلقد باتت المواطنة هى المفهوم الأكثر إنسانية واحتراما للحريات البشرية، حتى فى هزائم الحروب صار للأسير حقوق وواجبات تنظمها قوانين ومواثيق دولية، ولا يمكن بحال أن ينظر إليهم بحسبانهم سبى حروب وغنائم أو جوارى، أليست هذه القضايا المعلق البت فيها برأى قاطع فى أشد الحاجة للقطيعة معها، والحسم فى أحكامها، حيث إن تعليقها على هذا النحو غير المحدد يفتح الباب لبعض التيارات ذوات الفكر المتطرف لأن يأتوا بأحكام وأفعال تسم الإسلام برمته بالعنف والتطرف، وفيما فعلته داعش فى غزواتها فى العراق وسوريا شواهد على ما أقصد.
نحن بحاجة ملحة لرؤية واسعة لمقاصد الشريعة الإسلامية السمحة التى غايتها سعادة الإنسان وحريته، إقامة العدل، أن ينعم بالحب والسلام والإخاء، وأن ننظم علاقاتنا الإنسانية بطريقة أكثر عدلا وتعقلا، هذه المقاصد الإنسانية الواسعة تُعد محطات انطلاق تأسيسية وجذرية لخطابات التجديد والتطوير.
إن التحصن خلف ما يطلق عليه منجز السلف، واجتراره، والوصول به حد تقديسه وتحصينه للوصول به إلى مكانة النص ذاته، والخوف من الاقتراب منه بالنقد والتفكيك، وإرجاع الفتوحات الشاسعة له وللتراث الذى قدمه يعد افتئاتا على الواقع، كما أن اللااعتراف بمواضع عدم الملاءمة فيه مع العصر يعد عجزا ونكوصا عن مواكبة مقتضيات العصر الحديث وعلومه وحقوق الإنسان فيه. ليس كل التراث هو ما صنع الفتوحات، وعلينا الاعتراف بأن بعضه أيضا هو ما ضيعها.
كيف يرضخ البعض لوطأة تسليم العقل هكذا وتكلسه عند لحظة زمنية انقضت بما لها وما عليها؟ كيف يعتبرون أن الجدل والسؤال، والنظر والتفكّر والمراجعة من الكفر، والتربص بالإسلام والرغبة فى هدمه؟ كيف يقنع بعض من يتحدثون بالدين البسطاء بقتل الآخرين المخالفين لهم فى العقيدة، أو إراقة دم الجموع لو أنهم طرحوا فكرا مخالفا ومناقضا لما يرونه. أو أن نبتلى بخزعبلات مثل فتوى جهاد النكاح، أى أن تهب المرأة ذاتها وجسدها للمقاتلين للتمتع به، والترفيه عن المجاهدين، أية قيم إنسانية ينطلقون منها؟ وكيف يمارسون هذا التأثير على الآخرين؟! لعلنا يجب أن نلتفت لفقه دغدغة العواطف وتشكيل الأوهام الذى يمارسه بعض رجال الدين.
علينا أن ننتبه لآثار خطورة لصق التقديس على الموروث والرجال التى صنعته بحجة أنهم الأقرب من عصر أنوار الرسالة، ولهذا السبب يرجعون تنزههم وكأنهم لم يكونوا بشرا يُخطئون ويصيبون، وليس لديهم انحيازات وأهواء لصيقة بالطبيعة البشرية، ورغبات فردية خاصة، عصبيات ومصالح مادية أو معنوية. ألم يعاصر هؤلاء الرجال دولا تنهض، وأخرى تتقوض وتنتهى، وكلاهما بحاجة للشرعية والمبررات، ولماكينة إعلامية تبرر الأحداث وتهبها مصداقية، ألم يكن لهم انتماءات قبلية مهما تجردت أهواؤهم؟
كما يرجع البعض تقديس السلف لتوفرهم على مناهج بحث محكمة ومتفحصة وواسعة الرصد حين جمعوا الحديث ووضعوا أسس العلوم التى نشأت لخدمة الرسالة الجديدة، وقاموا بقياس ما استجد من قضايا مجتمعهم على ما وجدوه من أحكام مرت من قبل، ولعل المنهج المنضبط هذا يطول الحديث بخصوصه، حيث يمكننا أن نشير للعديد من الإيجابيات التى تمت فيه بالفعل، لكننا أيضا لا يمكننا إغفال لا منطقية بعض ما أثبتوه، بل ومخالفته لمقاصد النص القرآنى العليا، هل يمكن ألا نلتفت لكيف نشأت المذاهب والفرق فى الإسلام، وكيف تناحرت فيما بينها، وتنازعت على السلطة السياسية ولقد كانت هذه النزاعات التربة الخصبة التى وضعت وألفت فيها الكثير من المرويات والأحاديث للأغراض المختلفة التى تتفق وهوى ومصالح كل فئة ممن تناحروا سريعا بعد موت الرسول. كل هذه الأسباب تدعو لمشروع جاد لإعادة فحص الموروث من الخطابات والموروثات الدينية وتجديد هذه الخطابات بما يتسق مع عصرنا وقضايانا وما استحدث من معطيات وعلوم أضفت تأثيرها على واقعنا اليوم.
وأحسب أنه من الضرورى رصد أساليب معظم الشيوخ فى النقاش حول أية قضية تطرح للحوار ويكونوا طرفا فيها، فهم غالبا ما ينتهجون طريقة فى الردود تستند على: عدم الرد على الأفكار محل التساؤل، وتلاشى النظر لجوانب الخلل بها والتفكر فى كيفية معالجتها، والاجتهاد لتغييرها، لكن يواجهونك وتنبرى ألسنتهم بنقص وفساد كل طرح بديل لما يقولون، وأن أى تفكير فى رفض الموروث التراثى أو اقتراح بديل سيفتح بابا للفساد الأخلاقى، وتقويض الدين الذى وجدنا آباءنا عليه، وأنك تنشد تقليد الغرب الكافر الذى يتربص بنا ويريد أن يحكمنا إن لم يكن بجيوشه فبنشر ثقافته وخطاباته، وكأن ليس لدينا خلل، وبتلك الطريقة يتهرب من المواجهة مع المسألة وما بها من صدوعات خطيرة لا تتماشى مع العقل ولا المعاصرة، وطالما رفض رجل الدين وتهرب فهو بالطبع لن يبحث عن طرح جديد يصلح، لأن طرق إعداده العقلى وثقافته لم تتضمن كيف يبدع ويبتكر ويفكر فهو قادر على النقل فقط ويستريح له.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
%d مدونون معجبون بهذه: