بعض الرتوش البسيطة.. لكنها واضحة
د. أماني فؤاد
ثمانٍ وعشرون ثانية فقط هي المدة التي استغرقتها المكالمة، بمجرد أن قلت: كل عام وأنت بخير، شكرتني سريعا وسألتني: خير إن شاء الله، هل هناك شيء؟ أجبت: أردت تهنئتك بعيد الأم فقط، ساد صمت لثوانٍ ثم أنهت المكالمة، برزت الأسلاك الشائكة وقطع الزجاج المدببة ذاتها على جدار هاتفي، جرحت أصابعي فرميته بعيدا.
تمنيتُ لو سألتني هل ستأتين اليوم لأراكِ؟ تدعوني وأحفادها، أردت أن أقول: أحتاجكِ، أشتاق لحضنك الذي لم أتعرفه أبدا، أحضرتُ لك عطرا أتمنى لو راقكِ، منذ الصباح أعد فطائر الجبن واللحم التي تحبينها وأريد أن أحضرها إليك طازجة.
لم تهبني مساحة فبدأتْ رقصتي التي أعتدت أداءَها منذ طفولتي، ذراعَيَّ يضمان جسدي، وفي دائرتي أتصاعد، في كل مرة يضيق النفق ويزداد طولا، فأطلق صيحاتي المحرومة الغاضبة، منذ وعيت الحياة والأبواب بيننا تنغلق سريعا؛ مُصدِرة جلَبة وضجيجا يتركاني بلا أحد.
سمعتها تقول لخالتي متأففة: لا أعرف كيف تتعاملين معها؟ في ماذا تحكيان؟ عكس أختيها لم تنمُ الكلمات بيننا ولا الحكايات.
عاودتْ الاتصال بعد ثلاثة أسابيع ــ فقد كنت أحصي الأيام بدقة ــ قالت: لقد استقر رأي العائلة على تجهيز “جلسة رجال” للنظر في شأن عملك بعد شكوى زوجك المتكررة، يقول إنه يجعلك قوية فيزداد تمردك، ننتظرك السبت القادم في السابعة، وعليك أن تلتزمي بما سيحكمون.
عاودت أصابعي النزف سريعا بمجرد سماعها، لكنني سألتها: ماذا تعرفين عني، هل بدلتِ أحزاني مرة واحدة، وأطلقتِها فراشات لتطير فوق رأسي كما تفعل الأمهات؟ ماذا يعرف رجال العائلة عن حياتي؟ لن أترك عملي؛ يشغلني عن خياناته المستمرة، عندما واجهته؛ تبجح قائلا ماذا أفعل؟ مريض أنا بعشق الجميلات، سلِّمي بمرضي، وعيشي لتربِّي أولادك. كيف سأصف في جلسة الرجال النيران التي تشتعل برأسي حين أسمعه يغازل إحداهن بالساعات على الهاتف؟ مُهانة أنا ومعلَّقة بالفراغ، لا تقولي لي رجُل ويفعل ما يشاء.
لم يخذلني عملي. هل قلتِ لي مرة واحدة إنك لن تتخلي عني أبدا، هل ضمَّتني عيناكِ الكبيرتان وأغلقتْ أهدابها عليّ؟ عملي – على بساطته – هو الذي كفكف دمعي حين أتيتك؛ فكان ردُّك: “ما يحتاجه البيت يحرم على الجامع”، كفانا عملي السؤال؛ يكسو أولادي ويطعمهم بعد أن تأثرت تجارته وظَلَّ في البيت طويلا.
لماذا لا تحاربين معي معاركي لو أنها عادلةّ !؟ لماذا لم تردِ عني لمرة واحدة، فحين يقول لك لا يروقه عملي في محل لتصفيف الشعر!؟ قولي له: هو ما وجدتْ، ويكفيها وأولادها بشرف، لماذا أظل أنتظر شمسك التي لم تشرق أبدا لي.
صرخت قائلة: لا أريد أن أسمعكِ أكثر من هذا، لا تكسري كلامنا؛ أنا ووالدك قررنا وانتهى الأمر، منذ صغرك وأنت تثيرين المشاكل والجدل، لا تعرفين معنى الطاعة، ترفضين أولا ثم تبدأ سلسلة من المهاترات، منذ طفولتك لا تأتيني راحة من طرفك.
نفس الأسلاك الشائكة وقطع الزجاج المدببة في صوتها، في مقاعدها ومطبخها وتلفازها، في الأطعمة التي نادرا ما تعدها لي مثلما تفعل مع أخوتي، في ملامحها.
قلتُ: لا ترتبي لجلسة الرجال فلن أحضر، لن أتنازل عن عملي، لن أقبل بما يحدده آخَرون لا يعرفون حياتي، لا يعنيني رأيك الباحث عن صلصال ليِّن يشكله، كل ما أعرفه أنه ليس ذنبا أن أعتد بما أرى، أنا لست صنما تُملِين عليه أنتِ وجلسة الرجال ما تريدون. أغلقتْ الهاتف، كانت تلعن اليوم الذي أنجبتني فيه.
نظرتُ طويلا في المرآة، تحسست ملامحي التي لم ترُقْني أبدا، أخرجت علبة المكياج وبدأت أضع رتوشا مما تعلمته أثناء ملاحظتي لخبيرة التجميل بالمركز، ثم أطلقت شَعري و نظرت ثانية، وجدتني جميلة، لم أعد أشبه أمي، تساقطت بعض قطع الزجاج المدببة على الأرض، وبعض الأسلاك الشائكة.