مقالات وآراء
ضريح الجنين
د. أماني فؤاد
أشعل أحد الأشرار النار في قطة، ركضت نحو الماء وغرقت، حين أخرجها بعض الأطفال؛ وجدوا النيران أتت على شَعرها كله، تركوها متأففين، إلى أن مَرَّ رجُل عُرف عنه علاج الناس بالرُّقية والحجامة، تأمَّل جسد القطة؛ فاسترعى انتباهه تلك الرسومات المجسَّمة التي تركتها النيران على جِلدها المشوَّه، تعجَّب من هذه الحروف الملتبسة، والأشكال، ميَّز نجمًا وشيئًا دائريًّا كمركبة فضاء، نهدا نافرًا لأنثى بلا ملامح، وقواقع من تلك التي تبعث بأصوات البحر كلما قرَّبتَها لأذنيك، وفأرًا. رأى أيضا جعران، ولم يحدد الشكل الآخَر، أهو صليب أم مفتاح حياة فرعوني؟ رأى فيها على الفور رسالة اختصته بها الأقدار، أخرج قلمًا وورقة، وشرع ينقل ويرسم خطوطًا ويكتب كلماتٍ، لأكثر من ساعة يقلِّب الجسد الميْتَ، تلفَّت حوله فلم يجد أحدًا، وضعها في ورقة ملقاة لشيكارة أسمنت فارغة، لفَّها سريعًا وهرول باتجاه بيته. في شرفة قريبة كانت تقف إحدى الفتيات، عندما رأته؛ أعجبها قلبه الرحيم، سيواري القطة في التراب، تعجبت فقط ماذا كتب، ولماذا استغرق كل هذا الوقت!؟
بعد مرور خمس سنوات، عادت الشابة إلى مدينتها الصغيرة؛ افتتحت عيادتها لعلاج الأمراض النفسية، كانت قد حلمت بها هي ووالدها، بعدما ماتت أمها منتحرة، بعد اكتئاب دام لسنوات، ظلت لشهور كثيرة لم يتردد عليها سوى سَبْعِ حالات، جميعهم قالوا إنهم كانوا يعالَجون عند الشيخ “بركات” لسنوات، جرَّبوا وصفاتِه جميعَها، وأحضروا كل ما طَلب منهم، كانوا يشعرون بالتحسن فترات قصيرة، لكنهم يعودون لنفْس معاناتهم. طبَّقت معهم ما تمرَّست عليه في الماجستير، وفترة تدريبها في عيادة أستاذها، أعدَّت الجلسات بحسب الحالات بعناية فائقة، وكتبت لهم الأدوية، كما أحالت اثنين منهم لإحدى المستشفيات المتخصصة على أطراف العاصمة. كانت تشعر بالحنق الشديد؛ كيف بإمكانها مواجهة كل تلك الخرافات التي سرحت جذورها في عقول الناس إلى أن تضخمت فصارت غابات مظلمة؟!
في صباح أحد الأيام اجتاز الشيخ غرفة الكشف بعد أن حجز موعدًا، بادرها مباشرة أن عليها أن تغلق أبواب عيادتها، وأن تغادر مدينته على الفور، فتلك منطقته، وأنها مهما أوتيت من علم لن تستطيع أن تنافسه، قال أيضا: إنها ليست سوى امرأة؛ ولا قِبَلَ لها بما يمكن أن يفعله بها، سيطلق عليها الإنس والجن معًا. تذكَّرته، أمعنت النظر فيه وهو يهددها بصوته الجهوري، تعرفه، هو رجُل القطة المحترقة، هي نفس ملامحه، دَاخَلها صوته صريرًا لزجا، يشبه احتكاكات الأبواب القديمة.
سألته مباشرة: ماذا فعلت بالقطة؟ جلس ونظر إليها طويلا، قال: أية قطة؟! يبدو أنك خرفة. سريعًا قالت: ذيل الفأر الأجرب، وقواقع البحر الميت، وتلك السبائك الذهبية الدائرية المنقوشة التي يصكها المرضى لك بحسب رسوماتك، العذراوات التي تقرأ في كفوفهن الطالع، وتضفر لهن شعورهن، هل أُكمل شعوذاتك التي أوهمت المرضى أنها بواباتهم للشفاء؟
الآن فقط عرفت المدفون بداخل “مقام الجني الجنين”، الذي أوهمتهم به ونصبته في طرف بيتك، تلك القبة الخضراء القصيرة التي تجعلهم يدورون حولها.
نظر إليها ثم زاغت عيناه لدقيقة، وجد في ملامحها عذوبة وتحديًّا، قال: أملك أموالًا بلا حصْر، أنصحك بأن نتزوج، تعيشين في معيتي معزَّزة بلا عمل ودون جهد!
ردت مباشرة دون أن تهتز ملامحها: أتركني يومين أفكر.
في نفْس الليلة، على صفحتها، قصَّت للجميع حكاية رجُل القطة المحترقة كاملة، دعت كل من خُدع بتمائمه وأحجبته، واحتمل غرائبه، أن يجتمعوا أمام دار الشيخ، للجميع أن يكتشف ماذا بداخل مقام الجني الجنين؟
حين ذهبت؛ وجدت جمعًا من الرجال والنساء أمام داره، عشرات اقتحموا البيت، أمام المقام يشتعلون غضبًا، نهبهم كثيرا وباعهم الوهم! بحثت في غرفته عن أوراقه التي نَقَل فيها الرسوم المجسمة، تلك التي كانت على جلد المغدور بها المحترق، نزل أحدهم بمعوله على المقام الصغير؛ رأى الجميع بأعينهم ورقة الأسمنت البنية، التي حَكَتْ عنها الطبيبة على صفحتها وبقايا القطة، أرادوا التنكيل به؛ فأشارت عليهم ألا تتسخ أيديهم بكذبه وافتراءاته!
في جمْعٍ تمَّ تسليمه وهو مقيد، كان يردد تعاويذه ويتوعدهم، من حولهم عشرات القطط تموء بصوت يئن!