مقالات وآراء
منظومة الثقافة المصرية
قبل عودة طالبان والاستيلاء على العاصمة كابول، وضياع حلم الدولة المدنية فى أفغانستان، كتبتُ عن الإرث الذى تركه الإخوان والسلفيون فى مصر والبلاد العربية والإسلامية، وإنه رغم نهاياته على المستوى السياسى؛ إلا أنه ثقافيًّا ومعرفيًّا لم يزَل حاضرًا فى العقول وراسخًا وينتظر الفرصة للظهور مرة أخرى.. هذا الإرث الثقافى الذى يتطلب مواجهات على محاور متعددة، فنحن بإزاء تاريخ ممتد، دُبِّجت فيه خطابات استقرت بالأفق الذهنى لقاعدة كبيرة من المواطنين، احتلتهم وصارت لديهم يقينًا، نتيجة لصوغ الجماعات الدينية تلك الخطابات على أنها مقدَّس، ولتكرارها من خلال قنوات مختلفة.. مقولات لزرع الكراهية ورفْض الآخَر، إشاعة العنف والاحتكار والانتهازية، التمييز ضد المرأة وعدِّها كائنًا من الدرجة الثانية، محاربة العقلانية، التواكل وإشاعة القبح والفوضى، محاربة الإبداع والفنون والفكْر الخلاق، فنيرانهم وإن خَبَت ظاهريًا إلا أن جذوتها لم تزَل مشتعلة، فالأفكار المتشددة تربَّعت فى العقول وصارت هى الأصول، ولعل فى عدم مقاومة شعب أفغانستان لطالبان شاهدًا ودليلًا.
رسالتى إلى القيادة السياسية والحكومة التى تسعى بشكل دؤوب لضبط حلول مناسبة بكل الوسائل، قيادة جسدت الشجاعة وأعلى درجات الوطنية فى استرداد مصر من الإخوان والقضاء على أكذوبتهم، وتحرير سعر الصرف وإجراءات التعويم، وتنظيم دعْم الطاقة والمحروقات وصولا إلى إلغائه، واستبدال وجه مصر القديم الشائخ بوجه شاب نضر؛ حين واجهتَ مشكلة العشوائيات، ومشروع حياة كريمة للريف، وشرَعتَ فى المشروع القومى للتعليم، وإن كانت المنظومة لم تزَل تحتاج لقرارات جريئة، وأعلتَ من فرص التنمية، ولم تزَل الخطوات تتسع.
وقياسًا على خوض القيادة كل غمار وعدم تهيبها من اتخاذ القرارات الصعبة، أدعوها لأن تضع قضايا منظومة الثقافة المصرية تحت نظرها الدائم، فالإنسان هو أول البناءات المثمرة، الثقافة هى التى ستمكننا من أن نرتقى بوعى وذائقة المواطن المصرى، نرتقى بكيفية رؤيته للحياة، لقيمة العقلانية ونبْذ ثقافة الخرافة وكشْف عوارها، وذلك من خلال العديد من الآليات.. بالفنون التى تُقدَّم له والآداب، بتشجيع كل إبداع وفكرة خلاقة، بالحوار والنقاشات المفتوحة وإعادة الطرح لكل القضايا التى قُدِّمت له فى صورتها الأصولية السلفية التى لم تعد تناسب اللحظة التى نحياها، وأن تصل هذه الجهود لكل بقعة فى أرض مصر.
وأن يتم تحقيق هذه الأهداف من أسفل، من القاعدة العريضة لجماهير الفلاحين والعمال وسيدات البيوت والطلبة فى كل المحافظات المصرية، فكل ما يُفرض من أعلى ويهبط إلى هذه الشرائح فى شكل أمور مفروضة؛ يرفضونه وإن تظاهروا بقبوله، بل ينقلبون عليه سريعًا.
الوطن فى عيون مثقفى مصر ومبدعيها، فهو هَمُّهم الشاغل، فحين كتبتُ المقال السابق عن ضرورة مواجهة هذا الإرث العطِن الذى ترَكه التشدد؛ وجدتُ بعض الجادين، الذين لا يتهيبون المهام وينتمون إلى الريف والصعيد ويعرفون كيفية صناعة خطاب حديث، يُبدون استعدادهم للمشاركة والإدارة، ويتمنَّون لو أسهموا فى عودة الوعى لدى الجموع – دون أى مقابل – ويرَون فى إعادة إحياء الثقافة الجماهيرية وتفعيل دورها فى كل أنحاء القُطر المصرى طريقًا يَعِد بالآمال، أرادوا تحمُّل مسؤولية إعادة بعْث الوعى والفِكر والذائقة وتشجيع العقلانية فى عموم الشعب المصرى وتطوير نَسَقِه الثقافى.
أعلم حرص القيادة و الحكومة على بناء الإنسان المصرى، وأهمية التوجُّه بالثقافة إلى الريف؛ فتعداد أهالينا فى النجوع والقرى والمدن يفوق ستين فى المئة تعداد المصريين.
إن قصور الثقافة الجماهيرية – على وضْعها الحالى – يديرها فى الأغلب موظفون، لا مبدعين، وأغلبهم تأثَّر بشكل أو بآخَر بخطابات الإخوان وجماعات الإسلام السياسى، التى حطَّت بأجنحتها السوداء على الجميع، ولنتمكَّن من خلْق حالة نشطة لإيقاظ الوعى وتكوينه؛ فإننا بحاجة لإدارة المبدعين والمؤمنين بالمبادرات الفردية لقصور الثقافة، وذلك من خلال رؤية سلسة وعميقة الأهداف، وحيوية مبدعين يعرفون قيمة المسرح وما يطرحه من قضايا، ومدى حيوية رسائله وتفاعلها المباشر مع المتلقين، يعرفون فاعلية السينما وتأثير ما يُطرح بها من أفكار وقضايا، وتنمية الحس الجمالى، الموسيقى والأغانى، والفنون التشكيلية ودور كل هذا فى تشكيل وتهذيب الإنسان، يستطيعون تنظيم ورش عمل إبداعية لكشف المواهب وتطوير أداءاتها.
أضيف أيضًا: أن تتوافر إدارة نزيهة؛ يمكنها وضْع خطط سنوية بموضوعات تهمُّ الناس والمجتمع، وتؤسس لِهُوَيَّة وطنية متماسكة، وذلك من خلال الندوات والنقاشات المفتوحة مع الجماهير، طرْح جديد للقضايا من منظور معاصر. على سبيل المثال قضية محورية مثل: تنظيم النسل وتحديده، الطلاق، قيمة العمل، قبول الآخَر والانفتاح على الثقافات الأخرى، كشف الخرافة. يتعيَّن علينا أن نؤسس لإنسان يواكب العصر والمتغيرات، يسهم فى تطوير الواقع، يرفض الاتباع والنقل والسمع والطاعة، بعد أن تشبَّعت به شرائح كبيرة من مواطنى مصر والدول العربية.
توجد قيمة أجمع عليها المفكرون تُدعى «الإبداع»، الإبداع فى إنتاج المعرفة والعلوم والفنون، وهى التى تدفع المجتمعات والدول للتطور.
فى منطقتنا، يتعين تطوير الوعى والنسق الثقافى لجموع المواطنين، ولن يتأتَّى هذا إلا بغربلة القديم وإخضاعه للعقل، والإبقاء على العقلانى والأخلاقى منه، والبناء عليه بتطويره، أو مخالفته لعدم مواكبته، كما يمكن أيضا القطيعة مع بعض الموروث الذى يتركنا فى حالة جدل ونقاش مستمر بلا طائل؛ فلا نفارق مواقعنا، فكثير من القضايا يُعاد النظر فيها؛ لأننا لا نقطع فيها برأى نهائى ونتركها لانقضائها عقلانيًّا وتاريخيًّا.
نحن بأشد الحاجة إلى دفْع مياه متجددة توقظ حياتنا، وتعطى مبررات لوجودنا، وعدم وضْعنا تحت تصنيف الحضارات التى تندثر.. لعل من المهم ملاحظة أن إقليمنا ومنطقتنا لا يسهمان – إلا قليلا – فى المستحدثات العلمية والفكرية والفنية.. والتساؤل حول هذا يقودنا لقضايا التعليم وتهيئة المناخ العام للإبداع، ولا يتأتَّى هذا إلا بالحريات وخلْق حواضن حقيقية للمبادرات الفردية ونبْذ وتقويض كل ما يشدُّنا للخلف من أيديولوجيات.
القيادة أهلٌ لهذه المواجهة الحتمية التى تنقذ وعى المصريين ونهضة مصر.