مقالات وآراء
لم يقاوِم الأخرى إلا نادرًا
د. أماني فؤاد
في اليوم الذي التقاها فيه؛ عَشِقَها، حكى أنه رآها من قَبْل، حَلَم بها منذ سنوات، شَعَر بعينيها الفاتنتين معلقتين عليه، تستكشفه. كان وسيمًا رغم ملامحه الجادة، ينفذ من مسامها، ولا تعرف كيف! ربما لعينيه اللتين تغمرانها بحنين جارف.
سحَرَه صوتها، كان لنهايات حروفها غواية لم يكن يعرف مصدرها، ضحكتها رفرفة أجنحة لفراشات ملونة تنثر فرحًا، تعجَّبتْ كيف تشعر بدفئه على هذا النحو، رغم أنه لم يمسسها، شعرتْ أنْ ثمة سكون مقدَّس على مساحة كتفيه، فتمنت لو اقتربت وتركت رأسها بأريحية، شيء منها تم استلابه وهي ترقب المشهد مأخوذة، ملامحه التي تضوي بنشوة واضحة جعلته الأكثر جاذبية، حين سمعته يحاور محدِّثه؛ لمست إحاطته وثقته، لمحت فيلسوفًا، ذهبت لتجلس بجواره، طلب منها أن يطَّلِع على مشروعها الذي أثار جدلا، استمرا يتحاوران دون أن يكترثا بمن حولهما، حين غادر؛ اعتذرت هي الأخرى، فضَّلت أن تكون وحيدة، تستمتع بخطفة الروح التي اعترتها، وتسترجع دفء ظهوره.
في غفلة من عشقهما – الذي فاض وأزهر – برزت بجوار رأسه – التي استعذبتها – رأسٌ أخرى، نفذت من رقبته ثم استطالت، أزاحت الأولى لمسافة واستقامت، بدت ناتئة على كيانه الذي أحبت، لم يفعل شيئًا إلا أنه احتفظ بالاثنتين معًا، لم يقاوِم الأخرى إلا نادرًا.
كانا كلما ازداد اقترابهما، وشَعَرا بأن كل منهما يغمر الآخَر بالفرح، بالغوص في ملمس القطيفة الحانية؛ كلما صدمها باختفائه بلا مقدمات، جعلها تواجه الفراغ، وحشة العالَم من حولها، لم يكن يبدي أسبابًا، فقط عليها أن تقْبَل اختياراته، وترتمي في غابة استنتاجاتها.
حين سألته: لماذا؟ ومن أين تأتي بتأويلاتك تلك؟ قَصَّ عليها أن جدته لأبيه، نصحتهم ألا يأْمَنوا لامرأة، فالريبة تليق بالنساء، ذكرت أنهن بسبعة أرواح، ولا يستقمن إلا بالقسوة، حين سألته: أكانت جدتك امرأة؟ غضب من سخريتها. كيف لمثله ألا يدرك أن المرأة رددت ما لقَّنها الرجال، تعجبت أيضامن ترديده لمقولات حكيمه الذي عاش قبل الميلاد.
اعتقدتْ في البداية أنه يمزح، مع الوقت صارت تتهيب توجساتِه وغضبَه، اندهشت ذات ليلة، ملامحه التي استعذبتها صارت جهمة، نتوءات حادة تبدَّت فوق جبينه، كان أن لمحت لرأسه الناتئة أظافرَ وأسنانا حادة.
في أحد مرات صفائهما مالت تزيح قميصه السماوي، وتقبِّل رقبته، تستنشق أنفاسه التي تعشق، سمعتها، سمعتها تهمس في أذنيه: متَّسِع عالَمُها؛ لا تأمن لها، لست الوحيد بدنياها، كُثر يمدحونها، ماذا يتبقى لتقوله لها، تلك امرأة يقودها الطموح والإرادة، لا يمكنك القبض على عالَمها. كانت الأخرى قد أشعلت النيران في المسافة التي بينهما.
رعب أكثر من هذا سوف يجئ، شبَّت الحرائق في أطرف ملابسها، في خصلات شَعْرها، أفكارها، عظامها التي سئمت استجداء التفهم، كثيرًا ما رددت له شَطْرَ “حجازي”: “هذا الزحام لا أحد”، عالَمي أنت فقط، أنت من يعيد ترتيب فوضاي، يبدد قلقي، ويكمل نقصي، كان أن التقطت رأسه الناتئة الكلمات من شفتيها ومزَّعتها، كما سدَّت أذنيه وروحه عنها.
حين استيقظت من نومها في إحدى الليالي لم تجده بجوارها، وجدت رأسه الأخرى فقط، عشرات الأعين الجاحظة التي تنظر إليها بريبة، عشرات الألسنة التي تلتف حول عنقها، تشدها لبحيرة ماء آسنة، ابتلعته الأخرى الناتئة، أذابته في جوفها..
شَعَرت بأنها تطارد الغياب، يمتصها اليأس؛ يحيلها لامرأة تدافع عمَّا لم تقترفه. تلقَّت صفعاتها وركلات قدميها كثيرًا، كانت تتحسس علامات أصابعها على وجهها، لا لتؤسس لكراهيته؛ بل لتدفع غضبها، استعارت زرقة السماء وحلقت، تعجبت متى لن تأخذها أجنحتها كل مرة نحو صحرائه ورؤوسه الأخرى!.