أخبارشؤون هولندية

أغلب اللاجئين من سوريا الذين قدموا إلى هولندا في السنوات القليلة الماضية عاطلون عن العمل

“الفتاة ذات البالون”، تلك اللوحة الرائعة لفنان الشارع البريطاني مجهول الهوية عالمي الصيت “بانكسي”، المعروضة حالياً في متحف “موكو” للفن الحديث وفنون الشارع في أمستردام، ليست شاهد العيان الوحيد على المكون السوري في هولندا

إنهم يشكلون مكوناً حديثاً نسبياً في هذا المجتمع متعدد الأعراق، الذي يفخر بتعدديته، ويباهي بألوانه وثقافاته ومعتقداته الكثيرة التي يعيش جميعها في كنف قوانين صارمة واحدة لا مجال لخرقها أو القفز على نصوصها

المكون السوري الذي ظهر بقوة وكثرة فجائية، بسبب الأحداث في سوريا على مدار العقد الماضي، يفرض نفسه بشكل مختلف عن الفرض الذي طرحته مكونات سابقة مثل المغربي والتونسي والجزائري والمصري والعراقي والسوداني واللبناني والفلسطيني وغيرها من مكونات الهجرة واللجوء العربي في هولندا

تعددية هولندا

هولندا التي تحوي ما لا يقل عن مليوني “مهاجر”، إضافة إلى أبنائهم الذين وُلدوا على أرضها، وأصبحوا هولنديين، مشبعة بالتعددية ومرشحة إلى زيادة، إذ ما زالت تستقبل الآلاف من طالبي اللجوء كل عام من دول عدة، تأتي سوريا على رأسها

وبحسب المفوضية العليا لشؤون اللاجئين التابعة لمنظمة الأمم المتحدة، وصلت هولندا في عام 2020 فقط 13.541 طالب لجوء، أغلبهم من سوريا والجزائر وتركيا بالترتيب

وعلى الرغم من أن أعداد السوريين الذين استقبلتهم هولندا وما زالت تعد قليلة مقارنة بدول أوروبية أخرى، مثل ألمانيا والمجر والنمسا، فإن قدرتها على استيعاب المزيد تتقلص

وبحسب “المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات”، فإن هذا البلد “لم يعد قادراً” على مواكبة تزايد عدد المهاجرين القادمين إليه بحثاً عن ملجأ

وعلى الرغم من ذلك، فإن نحو 72 في المئة من طلبات اللجوء في عام 2020 جرت الموافقة عليها، وهو ما يجعل “سمعة هولندا” كبلد يقبل اللاجئين تنتشر انتشار النار في هشيم صفحات “فيسبوك”، وغيرها، للباحثين والباحثات عن فرص هروب من الصراع

الصراع في سوريا، بحسب موقع “ستاتيستا” المختص بالإحصاءات العالمية الموثقة، دفع نحو 13 مليون سوري للنزوح منذ بداية الأحداث (بحسب مركز بيو للبحوث). نصيب هولندا يظل صغيراً (نحو 32 ألفاً)، لكن يبقى كبيراً، مقارنة بمساحة هولندا وقدرتها على الاستيعاب

الاستيعاب وأشياء أخرى

وبعيداً عن قدرة الاستيعاب، فإن السوريين في هولندا، الذين وصلوا إليها في أعقاب أحداث العقد الماضي، يظلون في مكانة بين بينين من حيث الاندماج في المجتمع الهولندي، إذ يظل عامل الدين، أو بالأحرى مدى فهم اللاجئ أو المهاجر له باعتباره حائلاً يحول دون الاندماج في المجتمع، على رأس قائمة مشكلات اللجوء بشكل عام

 

يقول المصري المهاجر إلى هولندا منذ ما يزيد على 30 عاماً محمد محمود (60 عاماً)، “على الرغم من أوجه التشابه التي تصل إلى درجة التطابق أحياناً بين الجنسيات العربية المهاجرة أو اللاجئة إلى هولندا، فإن لكل جنسية خصوصية تميزها. السوريون الذين قدموا إلى هولندا عقب الأحداث يختلفون فيما بينهم من حيث الرغبة والقدرة على التعامل مع المجتمع الهولندي”

ويوضح، “نسبة كبيرة منهم تفضل التعامل مع المجتمع من بعد، بمعنى تعلم اللغة والحصول على التعليم لمن هم في سن المدرسة أو الجامعة، وكذلك الخدمات الصحية والاجتماعية وغيرها من الخدمات التي توفرها الدولة، لكن هناك ميلاً عاماً بينهم لمقاومة الاندماج”

وعلى الرغم من الاختلاف الكبير بين الاندماج والانصهار، حيث إن الأولى تتيح التعامل مع المجتمع والتحول إلى عضو فاعل فيه والانتماء إلى منظوماته المعيشية مع الاحتفاظ والحفاظ على درجات مختلفة من الخصوصية الثقافية والدينية، في حين تعني الثانية قدراً من التماهي الكامل مع المجتمع المضيف، لدرجة الانصهار وضياع الخصوصية، إلا أن اندماج الكثيرين من السوريين ما زال معضلة، لا سيما للعائلات

عادات وهوية ودين

بعض السوريين يسميها “تمسُّكاً بالعادات والتقاليد والهوية والدين”. وفي المقابل، يسميها البعض الآخر من الهولنديين من أصول مختلفة وقلة قليلة من السوريين في هولندا “تشنجات أو نعرات ثقافية أو دينية”

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

جهود كثيرة، وإجراءات عديدة، ومنظمات مختلفة، وكتيبات لا حصر لها تعمل على مساعدة أو حث أو نصح القادمين الجدد باتباع نصائح تساعدهم، وتساعد المجتمع المضيف، على خوض حياة سلسة لا مجال للانعزال أو تكوين ما يشبه الـ”غيتو”، ولو حتى ثقافياً، فيها

أحد هذه الكتيبات ألّفته مجموعة من اللاجئين من أصول مختلفة، أغلبهم عراقيون وسوريون وأفغان وعدد من الدول الأفريقية حتى تكون النصائح قابلة للتنفيذ من واقع خبرة حقيقية. تعلم اللغة، ومن ثم العمل وبدء حياة طبيعية فيها قدر جيد من السعادة الناجمة عن الانتماء لوطن جديد هي الغاية

لكن، الغايات أولويات تختلف من شخص إلى آخر، ومن مجموعة إلى غيرها. عائلات سورية عديدة يبذل أفرادها قصارى الجهد، لتعلم اللغة بغرض تحسين القدرة على خوض تفاصيل الحياة اليومية، لكن يلاحظ مكون “الاضطرار” في حديث الكثيرين، لا سيما النساء، عبارات وجمل كثيرة، مثل “علينا الحفاظ على عاداتنا وأخلاقنا وديننا في هذا المجتمع”، أو “الهرب من الصراع وعدم الأمان لا يعني أبداً التضحية بالجذور والدين”، أو “علينا مهمة بالغة الصعوبة، وهي حماية أبنائنا وبناتنا من مخاطر التخلي عن دينهم وعاداتهم”

المكون الديني

الخوف على المكون الديني، لا سيما الإسلامي، من تأثير المجتمع وعاداته وتقاليده المختلفة بشكل كبير عن المجتمعات العربية يشكل هاجساً لدى غالبية من تحدثت معهم “اندبندنت عربية”

الخوف على اللغة العربية أو خصوصية المطبخ أو عادات التزاور أو حتى عدم القدرة على العودة إلى الوطن الأم مجدداً ليست الهاجس الأعظم. الهاجس الأكبر هو الدين والوجه الآخر له هو ملابس النساء والحشمة وغطاء الرأس وصلاة الجمعة في أثناء ساعات العمل وسماع الأذان ودروس الدين، وغيرها

ضمان الاندماج

الخط الرفيع الفاصل بين الاندماج الصحي والانفصال غير الصحي تتعامل معه هولندا رسمياً عبر اختبار إجباري يتحتم على القادمين الجدد الخضوع له واجتيازه، وذلك لضمان الاندماج

لكن، اجتياز الاختبار والإلمام بالقوانين وقواعد الحياة العملية في هولندا، لا تعني بالضرورة تحقيق غاية الاندماج المرادة من قبل المجتمع المضيف. مئات المبادرات يجري شنّها في هولندا بغرض تحقيق الاندماج. ردود الفعل في شأنها مختلفة، سواء من قبل الهولنديين أو اللاجئين. وإذا كانت “رقصة التانغو تحتاج إلى شخصين وليس شخصاً واحداً”، فكذلك الاندماج يحتاج إلى قادم جديد مستعد وراغب في أن يندمج، ومجتمعاً مستعداً وراغباً كذلك في تيسير وتفعيل اندماج القادمين الجدد

 

“المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات” يشير في ورقة عنوانها “الاندماج في هولندا: تقييم السياسات والبرامج” إلى أن الاندماج هدف سياسي واجتماعي وأمني بالنسبة لصناع القرار في هولندا، وهو أمر يحتاج إلى جهود كبيرة ومتواصلة وضمان مشاركة المواطنين المهاجرين، لا سيما من الجاليات المسلمة الذين يتمتعون بقدرة كاملة على المساهمة في المجتمع

وتشير الورقة إلى أن الاندماج الناجح قادر على التصدي للتحديات الكثيرة التي يواجهها المجتمع الهولندي في الوقت الراهن، وأبرزها التكلفة البشرية والاجتماعية للاستبعاد الاقتصادي، وانتشار الأيديولوجيات المتطرفة، وانعدام الثقة في عدالة الإسكان والنظم الصحية

المعلومات الهولندية الرسمية تشير إلى أن أغلب اللاجئين الذين قدموا إلى هولندا في السنوات القليلة الماضية عاطلون عن العمل. وعلى الرغم من الخدمات التأهيلية، وبعضها إجباري للحصول على تصاريح الإقامة الدائمة وبعدها الجنسية، حيث تعلم اللغة الهولندية والإلمام بقوانين العمل وحقوق المواطن وواجباته وغيرها، إلا أن المحصلة النهائية فيما يختص بالاندماج بعيدة عن المرجو

العمل يؤدي إلى الاندماج

العمل من الطرق المؤدية إلى الاندماج، لكن الأرقام تشير إلى أن 78 في المئة من القادمين الجدد في عام 2016 مثلاً ممن تلقوا حق البحث عن فرصة عمل في هولندا لم يحصلوا على عمل

وبحسب ما جاء في أطروحة ماجستير للباحثة آن ماري ترايمب برغر، عنوانها “اندماج اللاجئين السوريين في المجتمع الهولندي” (2019)، فإن 47 في المئة ممن لم ينخرطوا في سوق العمل على الرغم من أحقيتهم في ذلك قالوا إن فرص العمل التي توافرت لهم “أقل من درجاتهم ومستوياتهم العلمية”

وهذا أحد مرابط الفرس التي تدخل الكثيرين من السوريين في هولندا في دوائر مفرغة. ففكرة الاندماج رسمياً تعني تعلم اللغة والإلمام بقواعد وقوانين الحياة والعمل، لكن هذا النوع من الاندماج لا يساعد في تقبل اللاجئ لطبيعة العمل والفرص المتاحة في المجتمع الجديد التي لا تتطابق بالضرورة مع مؤهلاته العملية وطموحاته الحياتية، إضافة إلى تولد نمط متكرر، حيث توقعات وآمال القادمين الجدد لا يحدها سوى السماء، ثم ارتطام سريع بأرض الواقع والمتاح

رحلة موت وفرصة حياة

هند وزوجها مهند (أسماء غير حقيقية) وصلا إلى هولندا بعد رحلة مميتة بدأت براً إلى تركيا، ومنها إلى اليونان، ثم مقدونيا، وبعدها صربيا، ثم هنغاريا، ومنها إلى هولندا. هند لا تريد التحدث كثيراً عن (رحلة الموت) كما تسميها. تفضل أن تتحدث عن فرصة الحياة

التوتر والقلق والخوف وغيرها من مشاعر تشي بصحة نفسية عليلة تبددت حين سارت الأمور على ما يرام في هولندا، لكن تعريف “سير الأمور على ما يرام” لا يختلف فقط من شخص إلى آخر، لكن من وقت إلى آخر كذلك للشخص نفسه

تقول هند إنها وزوجها حاصلان على درجة الماجستير في التاريخ، وعلى الرغم من اجتيازهما اختبارات الاندماج واللغة، فإن فرص العمل التي توافرت يمكن أن يعمل بها شخص حاصل على شهادة تعليم مدرسي متوسطة لا شهادات عليا

وتضيف، “كنا نظن أن قبول طلبات اللجوء في حد ذاته أعظم حدث، ثم تصورنا أن اجتياز اختبارات الاندماج، وهي بالغة الصعوبة، هو الحدث الأهم، وهلم جراً. حالياً، وعلى الرغم من أننا نعيش آمنين على حياتنا، فإننا محبطان لأن حياتنا هنا، على الرغم من جودتها، لكنها أقرب ما تكون إلى الطبقات الدنيا، وليس الطبقة المتوسطة التي ننتمي إليها في سوريا”

قصص نجاح

في الوقت نفسه، هناك العديد من قصص النجاح، التي تتراوح بين افتتاح مطاعم ومقاهٍ والعمل في البستنة وقيادة السيارات والتمريض، لكن مسألة الاندماج وشعور اللاجئ السوري بالرضا تجعل التكهن بمستقبل السوريين في هولندا أمراً صعباً

هذه الصعوبة تقلل منها ولا تمحوها مئات المبادرات التي تدشنها جهات عدة في هولندا، حيث بناء مربعات سكنية يتقاسم السكن فيها هولنديون ولاجئون، وإقامة معارض تتيح للهولنديين خوض تجربة اللجوء افتراضياً، وتنظيم فعاليات فنية وعملية عدة تحوي هولنديين وسوريين

ملف اللجوء السوري في هولندا لا يخلو من مكون رقمي، حيث صفحات التواصل الاجتماعي تقول الكثير عن مشكلاتهم وأحلامهم. عشرات الصفحات على “فيسبوك” دشنها سوريون لجأوا إلى هولندا. محتوى الصفحات خليط من الأنشطة العربية المعتادة على السوشيال ميديا، حيث قصص دينية ومواعظ روحانية ونكات وأسئلة عن خدمات صحية وتعليمية وشكاوى أغلبها يدور في إطار كيفية تربية الصغار والحفاظ على المراهقين في بيئة تشرع المخدرات والجنس

كما تحفل هذه الصفحات بأسئلة استيضاحية من سوريين خارج هولندا يسألون عن أسرع وأضمن وسيلة للقدوم إلى هولندا. ملف اللجوء من أكثر الملفات تعقيداً والتباساً. وإذا كان فنان الشارع الأيقوني البريطاني بانكسي أعطى أزمة اللجوء السوري وجهاً عاطفياً بالغ التأثير لأزمة اللجوء السوري برائعته “الفتاة ذات البالون” التي أعاد رسمها لهذا الغرض، فإن للجوء السوري أوجه عدة غير تعلم اللغة والإلمام بالقوانين ومعرفة الحقوق والواجبات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
%d مدونون معجبون بهذه: