أخبار

العقلية الاحتيالية وضرورة استحداث ثورة فى الكيان الإنسانى

د. أماني فؤاد

د. أماني فؤاد

يحدث وأنت سائر فى طريقك وفق  من كل جانب، عن يمينك ويسارك، مستهينًا بأمنك وأمنه، وسلامتك وسلامته، مستهينًا بسيارتك وبما يقود، سواء سيارة أو توك توك أو ميكروباص، يحدث أن تُفاجَأ بأحدهم أمامك مباشرة فى الاتجاه العكسى، ولا تعرف لماذا؟ فليس هناك أسهل وآمَنُ من الصواب.

الثابت أن هناك قانونًا، وبلاشك يعرفه الكثيرون، لكن هناك خطأ وقَع ويقع فى منطقة ما، هناك خلل فى الأداء البشرى ذاته، العشوائية، والخروج على النظام، والانتهازية، ويُستسهل الخلل أيضًا حين تتراخى المراقبة الحقيقية لقوانين المرور، أو عند عدم وجودها فى كثير من الشوارع غير الرئيسية.

يحدث أن يواجهك- فى الجهة أو المؤسسة التى تعمل بها- كثير من المضايقات التى تصل إلى الرغبة فى التعتيم عليك، وإلغائك تمامًا، أن تجد مناخًا محتقِنًا وكارهًا، لا يريد الخير لأحد، رغم أنه لو منعه عنك لن يستطيع أن يأخذه، فليس لديه نفْس حالتك أو مقوِّماتك، لكنه لا يريد، بل قد يسعى إلى التشكيك فيك بكل الصور، التى قد تصل إلى هدْم كيانك، الأغرب أن تجد البعض يتبجَّح بقوله: «لماذا تعمل بكل تلك الهِمَّة، لماذا لا تركن للراحة؟ فلا شىء يفيد، لن يتغير حال شىء».

يُشيع فيك طاقة اليأس، وحين تتساءل بداخلك: لماذا؟ تعرف كيف يفكرون، فعملُ البعض مِنَّا يكشف تكاسل البعض الآخَر، وعدم قدرتهم على العطاء يكشف خواءهم وذاتيتهم وأنانيتهم بكل المعانى، فعطاءاتهم لأنفسهم فقط، لا يعنيهم تطوير مؤسسات الدولة، ولا أماكن عملهم، يتعاملون معها على أنها الحكومى الثابت الذى يجب استغلاله وكفى، بعطاءات محدودة، وينتشرون فى أماكن أخرى، ليحصدوا المكاسب المختلفة الأخرى من مؤسسات خاصة أخرى، لكن شريطة الاحتفاظ بالحكومى الثابت، الذى يبذلون فيه أقل المجهودات. والمتكرر أن نستمع للكثيرين يقولون: «على قدر ما يعطوننا من رواتب».

هناك خلل ما فى هذه العلاقة، خلل من طرفين، الثابت أن تلك العقلية الاحتيالية ذات وجود كثيف فى معظم مواقع العمل، تلك العقلية الشخصانية الذاتية، وعدم منطقية الرواتب، وكونها لا توفر حياة كريمة لائقة سببان رئيسان لعلاقة واهنة وغير منتِجة.

يحدث أن يتسلم بعض المواطنين شقق الإسكان الاجتماعى بأسعار مخفَّضة، وعلى أقساط ممتدة لسنوات، أقساط ميسَّرة، لتسهيل الحياة على هذه الفئات، فيقوم البعض بالتحايل على النظام والقانون والدولة، فيزيد بالوحدة غرفة أحيانًا، ويفتح بها محلًّا للاسترزاق، وتحسين الدخل فى مكان غير مرخَّص تجاريًّا، التصرف الذى يُفسد المظهر العام. كما أن البعض يأخذ الفرصة السكنية التى تقدمها الدولة ويبيعها للتكسُّب منها، أى أنه قد أخذها دون احتياج حقيقى، وانتقص من فُرص المحتاجين عن حق. والأكثر غرابة أن الكثيرين يحاولون التحايل من أجل الحصول على الكهرباء والماء دون دفْع حصة ما استهلكوا بالفعل. هذه العقول الاحتيالية تستبيح الدولة، وما تقدمه من خدمات، وتحاول انتهاز أى فرصة لنَهْبِ أى شىء.

أين الخلل؟ ولماذا مهما تفاوتت الطبقات، ودرجات التعليم والثقافة، وجدنا هذا التوجه الاحتيالى فى التعامل مع أبسط الأشياء وأكثرها قيمة؟

نحن بحاجة لثورة حقيقية فى إعادة ترتيب قِيَم الكيان الإنسانى المصرى، بحاجة لإنسان صادق وحقيقى وفعَّال فى كل موقع، منظَّمةٌ فى ذهنيته تراتبية الأشياء وتشابُكاتها، وأنه فرد فى منظومة كبيرة، لو صلَح لصلحت الدولة كلها، كلنا يعلم أن ميراث الدولة المصرية من الأخطاء الكبيرة ممتَدٌّ وكبير، لكن القيادة الحالية تُقدِّم الكثير من الحلول المتوالية، كما أنها تعالِج المشكلات من الجذور، وإن كانت منظومة المرتَّبات فى مصر لم تَزَلْ بحاجة إلى خطة جذرية توائم بين متطلبات الإنسان، وتقديم ما يكفيه لعَيْش حياة كريمة، مهما كانت وظيفته وموقعه، لئلا تترك ثغرات ليتمادى البعض فى كراهية أماكن عملهم، وشعورهم أنها لا تكفيهم أهم أساسيات الحياة. تعمل القيادة من أجل إيجاد حلول للمشكلات، وسُبُل التنمية المتنوعة فى عدد كبير من المشاريع.

لكن يظل السؤال مفتوحًا: لماذا تظل تلك الوصمة الاحتيالية فى البعض من المصريين مهما اختلفت طبقاتهم؟ يمارس بعض المطحونين هذا الاحتيال كحيلة دفاعية خوفًا من الحياة ومتغيراتها، وعدم الشعور بالأمان، بينما يفعله الموسِرون وبعض رجال الأعمال حين يستحِلُّون أراضى الدولة ومرافقها وثرواتها، ويزدادون ثراء، وهم ليسوا بحاجة مُلِحَّة لهذا الاحتيال، وكلتا الحالتين يعاقِب عليهما القانون.

إنَّ ثورة إعادة تشكيل الكيان الإنسانى المصرى- التى أتحدث عنها- تقتضى التأكيد على بعض القيم، أن نساند بعضنا بعضًا، ونحب الآخَرين، أن ندرك قيمة ومعنى العمل الجماعى، أن نعرف أن النجاح عملية تراكمية وجماعية، أن يبنى كل فرد مِنَّا فوق ومع بناءات الآخَرين، لا أن نهدم هؤلاء الآخَرين.

ثورة هذا الكيان لن تتأتَّى إلا إذا زرعنا تلك القيمَ من المراحل الأولى فى التعليم، ولا يكفى هذا، بل أن تكون المحبة والصِّدق مناخًا عامًّا، مناخًا يراه الأطفال متحقِّقًا فى كل من يحيط بهم، الأم والأب والمدرِّس والأقرباء كنماذج يقتدون بسلوكهم وأخلاقهم وقِيَمهم، وأن تتعدد طُرُق تقييمنا للأطفال فى المدارس، وألا تكون الدرجة الفردية هى جهة التقييم الوحيدة والأساسية، بل أن يتوزَّع التقييم على العمل المشترَك مع زملائه، وزرْع مفهوم الفريق، وأن يتحقق السلوك الإيجابى ويجسد بين الناس فى الدراما والإعلام والبرامج، أن يتحقق فى السُّلطات السياسية المسؤولة.

أن نُعيد الثقة بين المواطنين والدولة، أن تستمر الدولة فى تعديل الأخطاء الكبيرة المتوارثة، وتُقدِّر مقومات الحياة الكريمة لمواطنيها بطريقة منطقية، وأن تَشْرَع فى وضْع خطة لتعديل منظومة المرتبات، بحيث تتماشى مع احتياجات المواطن، أن تُفعِّل القانون والنظام على الجميع دون أى استثناءات، أن يدرك الجميع أننا لا ننفصل عن أوطاننا، وأن حياتنا الفردية فى دائرة متصلة مع أوطاننا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى