مقالات وآراء

أنْ تقرأ.. أن تدرك عالَمَك!

د. أماني فؤاد
تم طرْح سؤال فى إحدى الندوات التى دُعى إليها مجموعة من المثقفين والأكاديميين والمبدعين العرب، تمحور حول: كيف نصنع قارئًا جيدًا؟.
استدعت أهمية طرْح هذا السؤال شيوع مجموعة من الظواهر، التى تصيب كل مثقف حريص على الحضارة العربية بالقلق والحزن؛ حيث تتراوح نسبة الأمية فى مجتمعاتنا بين 30% إلى 40%، وتصل فى بعض المناطق إلى 50%، كما أن المتعلمين فى بلداننا لم يتأصل لديهم فِعل القراءة بنِسب جيدة، هذا فى خلفية تفشِّى مجموعة من السلوكيات والظواهر التى تنتشر فى بيئاتنا وتتنافى تمامًا مع سلوك الإنسان القارئ المثقف متذوق القيمة والجمال؛ ظواهر من قبيل افتقار الفرد لرؤية عامة والقدرة على فهْم الحياة من حوله، الافتقار للمعرفة وعدم إتقان العمل أو الوعى بقيمته وتطويره، وغلبة التسطيح، وتحوُّله إلى ذات استهلاكية، استساغة القبح، والغرق فى قضاء الوقت بلا طائل، فى المقاهى، فى سماع الأغانى التى تفتقر للكلمة واللحن وتخاطب الغرائز، قضاء وقت كبير فى ألعاب البلاى استيشين، مع تحمُّل التبعات التى تتركها هذه الألعاب من عنف وانعزال وتقوقع على الذات.
كما تفتقر شرائح واسعة للرقِى فى السلوك واللغة والصوت والملبس، ورغم أننا مجتمعات أكبر نِسب السكان بها من الشباب، ويتجاوزون 60% من التعداد العام؛ أى أننا مجتمعات شابة قادرة على العمل والإنتاج والذائقة الواعية الراقية، إلا أننا نلاحظ أننا شعوب غير منتِجة ولا مبتكِرة بالقدْر الذى نأمله. وتعود هشاشة الوعى الثقافى والمعرفى وعدم الاشتباك مع جوهر الحياة ـ فيما أرى ـ إلى عدم المعرفة وانعدام الثقافة.
تتعدد مجموعة من المحاور وتتداخل للإجابة عن هذا التساؤل: «كيف نصنع قارئًا جيدًا، عارفًا ومثقفًا؟».. أحسب أن العملية تحتاج إلى مراحل، ولكل مرحلة طبيعة خاصة.. الطفولة والشباب والنضج.
تُعد الأسرة أول مواجهة للطفل مع العالم، فمن خلالها يتلقى الطفلُ العالَمَ منذ نعومة أظافره، من خلالها يتحقق التواصل؛ حيث الحكى الشفوى أولى المراحل لخلْق حالة من الاشتباك، وتعرُّف العالَم عن طريق الكلمات، وعادة ما تكون البداية بالقصص البسيطة التى يكون الطفل شغوفًا بها فى ذلك العمر، أو الأدب الشعبى والفلكلور.. هذه الحكايات تفتح أبواب مخيلته على اتساعها، القارئ الجيد يتم تربيته من الصغر على استماع الحكى والإنصات للأم والأب وهما يقرآن له، ثم على قراءته الكتب بنفسه لما تفتحه من عوالم؛ فالقراءة عادة تكبر مع الوقت وتُصقل مع الزمن.
ـ تلى مرحلة الحكى مرحلة القراءة للطفل من كتاب، أى ربْط عملية الحكايات بما تتضمنه من معرفة وشغف بمصدرها الأساسى، الذى يمكن أن يعتمد عليه من الكتب بأنواعها.
فى مرحلة متقدمة نسبيا من عُمر الطفل حين يستطيع القراءة بنفسه، يمكن بحيلة بسيطة دفْعه للمبادرة إلىالقراءة بنفسه، حين التوقف عند منطقة توتُّر من الحكاية، وتَرْك الكتاب له ليكمل القراءة بنفسه حتى يصل لنهايات الحكايات.
ـ دمْج الكتاب وجدْله فى يوميات الطفل، وحثُّه على اللجوء إليه – سواء كان الكتاب مقروءا أو مسموعًا، أو القراءة من خلال بعض مواقع الكتب – يجعله يعود إليه فى كل موقف يريد فيه معرفة معلومة ليجد ضالته.. كتاب ليزرع شجرة، كتاب لإحدى المسابقات، كتاب عن طبيعة ومعالم أحد الأماكن ليقوم برحلة، كتاب عن ظاهرة طبيعية وكيف فسَّرها العِلم، كتاب عن رؤى تاريخية أو فلسفية؛ أى ربْط المعرفة وعيْش الحياة بالكتب.
كما أود الإشارة إلى جانب فلسفى مرتبط بمنظور المجتمع ككل، لما له الأولوية فى حياة الإنسان، حيث إن التوجه المادى يجب أن يوازى المعنوى، فلا يُنتظر من مجتمع يقيس الفائدة بمقدار العملة المكتسَبة فقط أن يدعم القراءة، فالمجتمع المادى التجارى لن يقرأ، أما المجتمع الذى يعرف قيمة القضايا المعنوية والربح الفكرى والنفسى وأهميتهما الاجتماعية والاقتصادية، فهو المجتمع الذى يصنع قُرَّاءً ويحرص على زيادة أعدادهم.
تسلك دُوَلُنا – من حيث لا تدرى – طريقًا عكسيًا؛ تسير فى طريق واحد مادى، فى حين أننا نهدف إلى وجود قُرَّاء لما تخلقه القراءة وما يترتب عليها من وعى، من إنسان يدرك القيمة والرقى وجمال المعارف المتنوعة والفنون أيضا.
فى الأبحاث الحديثة للتنمية البشرية، قدَّم العالِم الباكستانى (محبوب الحق) – الذى يعد من أهم خبراء الاقتصاد فى العصر الحديث – بعض النتائج عن تطوُّر المجتمع الإنسانى، فلقد خلص هو والكاتب الهندى (أمراتيا سن) إلى أن زيادة الدخل السنوى للشخص لا ترتبط بزيادة مماثلة فى مقدار رضاه وسعادته الشخصية، أو بتحسُّن فى صحته الجسدية والعقلية، أو حتى فى مستوى تعليمه وثقافته، وغيرها من الجوانب ذات القيمة الإنسانية غير المالية.. وبناء على هذه الفلسفة، يخلص علماء الاقتصاد إلى أن التنمية البشرية يجب أن تعنى توسيع خيارات كافة أفراد المجتمع وحرياتهم فى جميع الحقول الاقتصادية والسياسية والثقافية، كما أن التنمية دون عدالة توفير الفرص للجميع تعنى تحديد الخيارات للكثيرين. الحرية والمعرفة وإدراك الفرد لذاته لا تتوافر للإنسان إلا بالقراءة.
ولعلنا نتساءل: لماذا أكثر الكتب مبيعًا فى مكتباتنا ومعارضنا العربية كتب الطبخ، والأبراج والروحانيات، والجنس، وكتب الدين أيضا؟. أحسب أن توجُّه القُرَّاء لهذه الأنواع يرجع لأسباب مادية نفعية، فهم يبحثون عما يُشبع غرائزهم، عما يطمئنهم على مستقبل حياتهم أو ما بعد الحياة، يتعلقون بإنسان البُعد الواحد فقط ويبتعدون عن الإنسان ذى الأبعاد المتعددة، فى عودة بدائية للكهوف البشرية السحيقة.
ـ لقد بدأت الحضارة الإنسانية بالفعل مع اختراع الإنسان للكتابة والقراءة، وأحسب أنها ستنهار بانهيارهما، فالقراءة ضرورة حياة وليست ترفًا فكريًا، فالمجتمع الذى لا يقرأ ينغلق ويصاب أفراده بالتطرف، وتتحدد قدراته وعطاءاته ويندثر مع الوقت.
ونستكمل في المقال القادم..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى