مقالات وآراء

كيف نصنع قارئًا جيدًا؟

د. أماني فؤاد
لقد ارتبطت مكتبة الإسكندرية بكل ما زخرت به من مؤلفات بالحضارة المصرية القديمة، وفيها تعددت العلوم والفنون من كل الحضارات، وازدهرت الترجمات وتحقق الانفتاح على الآخَر بكل تنوعه، ثم دار الحكمة فى بغداد وما حَوَته من ذخائر. لقد وعى المأمون فلسفة الانفتاح على الثقافات الأخرى؛ فعرف قيمة حضارات الشعوب وما تضيفه علومها وفنونها لدولته؛ فجعل مكافأة من يترجم كتابًا وزْنَ المؤلَّف ذهبًا.
ويتم تشجيع القراءة بالتعليم الجيد المحفِّز لعقل الطالب على الابتكار، واستمرار الرغبة فى المعرفة، فلطالما تحدثتُ حول أن سنوات الدراسة الإلزامية هى البيئة التى يمكن التحكم من خلالها فى كل ما يحصل عليه النشْء من علوم وأنشطة وتربية مستدامة، من خلال المناهج والمواقف.. فى هذه السنوات الأكثر أهمية فى حياة الإنسان لدينا الفرصة لوضع خطط مدروسة بعناية، موزعة فيها المواد وتنمية الأنشطة، وأهمها القراءة، توزيع وتنظيم المدخلات الفعلية التى نريد أن يُحصّلها الطلاب، فنحن لا نضمن مستوى ثقافة الأُسر ولا طبقتهم الاجتماعية ولا الاقتصادية، ولا درجة السواء النفسى، كما لا نضمن ماذا يقدم الإعلام لثقافة المجتمع، ومن يتحكم فى المواد التى تُعرض على الجماهير.. لكن فى سنوات التعليم، يمكننا غرْس عادة القراءة والكتابة والإبداع، مَلَكة الحوار والاستماع وقبول الآخَر من خلال المناهج، وعن طريق المدرسين المؤهَّلين علميًّا وثقافيًّا فى المواد العلمية والأدبية.
فى فنلندا واليابان وبعض البلاد الأوروبية يفضلون أن يكون المدرس من حاملى درجتى الماجستير والدكتوراة؛ لأهمية تأسيس الطفل معرفيًّا ووجدانيًّا فى هذه المرحلة المبكرة من العمر.
كما يتعين علينا المطالبة بعودة الأنشطة المتنوعة، التى تقدَّم فى المدرسة من: خطابة، وإذاعة مدرسية، وحصص للقراءة، وعقْد الندوات بما تتضمنه من النقاشات، وعرْض القضايا من مناظير متعددة، والتشجيع على الاطلاع من خلال المسابقات والتقدير المعنوى والمادى.
التعليم الجيد أيضا يجعل الشخص مُلِمًّا بقواعد الإملاء وتركيب الجُمل ومستويات المعانى، وهو ما يهيئ لقارئ جيد، وإلا أصبحت عملية القراءة عملية تعذيب تمارَس على الأفراد. ونركز على اللغة العربية الحافظة الأولى للهُويَّة هدفًا للتطوير المستمر لدى متحدثيها، يخبرنا المتخصصون أن حصيلة الطفل من مفردات اللغة تؤثر أيَّما تأثير فى تفاعله مع الحياة، وأنه كلما زادت حصيلة مفردات الفرد؛ ازداد وعيه بالحياة، فبالكلمات يعبِّر عن نفسه ويتواصل مع الآخَرين. عدم القراءة يصيب الفرد بالفقر اللغوى؛ ومِن ثَم لا يستطيع أن يعبِّر عن إرادته واهتماماته، فيتقلص مجال تواصله مع الوجود بصفة عامة.
– للإعلام أيضا دور مهم؛ وذلك من خلال إتقان لغة الحديث والحوار فيما يقدَّم من برامج ومواد، وأن يتحرى القائمون عليه معيار القيمة فيما يقدَّم، ويبتعد عن التسطيح والابتذال فيما يشغل من أوقات البث التليفزيونى، لابد تتضمن مواده أهميةَ عمليةِ القراءة بقدراتها وأثرها على تنمية العقل البشرى وتوسيع مداركه بطرق مرنة ودون توجيه منفِّر.
– للفنون كافة، وخاصة المسرح، أهمية كبيرة، وأيضا السينما والدراما، وما يمكن أن يُعرض بهما بطرق غير مباشرة من تعظيم آثار القراءة ونتائجها فى حياة الشخص الذى يحرص عليها، وكذلك ما يقدَّم فى الصحف والمواقع، وما يُعرَض بها من مادة خبرية أو مقالات الرأى والأنواع السردية.. وهنا يتعين تدخُّل الدول وتخصيص ميزانيات لدعم الأنشطة والفنون، حيث إننا دول نامية لا تتمتع برفاهية أن تكف الدولة عن دعْم الثقافة؛ وذلك مراعاة لمستوى الدخل المتدنى لشرائح كبيرة من المواطنين، كما يبرز دور الدولة أيضا فى منْح المتعلمين والمثقفين المنزلة المرموقة اجتماعيًا.. فلو أُهين المثقف ماديًّا أو اجتماعيًّا؛ يصبح موضوع تندُّر للعامة، وتسقط الثقافة كقيمة فى ذاتها.
– تبقى أيضا قضية صناعة الكتاب وأهمية ملابساتها فى تنمية عملية القراءة، بداية من الفكرة التى تقدِّمها، واللغة التى تُعرَض بها، للإخراج الفنى، مرورًا بالعنوان، والغلاف، وحجم الكتاب وطريقة الكتابة.
يجب أن يُراعَى فى كُتب الأطفال فى مرحلة سِنية مبكرة الإبهار والهيمنة على الحواس؛ من خلال الألوان والمجسَّمات وبعض الأصوات، أتذكَّر أن الكتب المجسَّمة الملوَّنة، التى كان أبى يشتريها لنا، فتصنع أشكالا عند فتح صفحاتها، كانت تتركنا فى عالَم آخَر، يتملكنا الشغف؛ فنتخيل الأحداث، ونستكمل تحريك الأشخاص بالأماكن المجسَّمة فى الكتاب. فكيفما يتم التعامل مع الكتاب فى البيئة المحيطة بالطفل ومدى تقديره؛ تظَل هذه المكانة راسخة فى العقل الباطن للنشْء، فالبعض يغلِّف الكتب بأفخر الجلود، ويرسم أغلفتها بالماء المذهَّب، والآخرون يستعملون أوراق الكتب لتغليف الأطعمة. فالتجارب المختلفة تفضى لمفاهيم مختلفة فى تفاصيل الحياة، فكلما تحسنت ظروف التجربة؛ تحسنت الفكرة.
والقراءة عملية تخضع لهذا المفهوم، ويتأثر هذا بلا شك بمستوى الحالة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية لشرائح المجتمع.. لكن أود الإشارة إلى أن المستوى الاقتصادى لا يمثل شرطًا قاطعًا فى خلْق قارئ من عدمه، فبعض المستويات محدودة الإمكانات الاقتصادية تعرف قيمة الكتاب وما يتضمنه من معرفة، وتثمِّن أثَر القراءة، فكثير من المتميزين جاءت قصص حياتهم تحديًا لأوضاع اجتماعية قاهرة، واستطاعوا أن يحققوا تفوقهم.
فى النهاية، كيف لنا أن نُفعِّل كل تلك الأفكار إلا فى مناخ عام يثمِّن الحرية والفكر خارج الأُطر المكرَّس لها؟!.. الحرية هى ما تُمكِّن الإنسان من أن ينتِج ما يستحق القراءة والنشر على نطاق واسع.. الحرية هى ما تتيح المناقشات والجدل الحُر بين الأفكار، تتجدد المعرفة وتتراكم كمًّا ونوعًا، ليس بالفكر الانتقائى المحدَّد؛ بل فى مناخ كامل من التجريب ضمن آفاق متسعة.. مناخ يستمع لصوت المفكرين والمثقفين، ويضع اقتراحاتهم محل الاهتمام والدراسة؛ ومن ثم التمكين على أرض الواقع، وخاصة فيما يتعلق بعملية التربية والتعليم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى