أخبار

د. صلاح سلام يكتب .. رحلة التعليم بين الكي جي وان والكتاتيب

الكتاب بضم الكاف هو مايعرف في هذا الزمن بالكى جي، مع الفارق في المحتوى التعليمي وطريقة التعلم، فقد كان كتاب الشيخ ” م” هو اول وجهتي في مسيرة التعليم في مدينتي الصامدة التي لم تنعم بالاستقرار منذ اكثر من قرن من الزمن فهي مسرح عمليات الحرب العالمية الأولى والثانية أما بطريق مباشر او غير مباشر وحرب فلسطين وحرب السويس و١٩٦٧ وحرب أكتوبر ١٩٧٣ ثم موجة من الإرهاب المتقطع مع بداية الألفية إلى الموجات المكثفة في العقد الاخير.

كنت على موعد مع الكتاب الذي لايقع بعيدا فهو في مسجد القرماني تحت الانشاء ومن لايعرف القرماني فهو اللواء عبد المنعم القرماني محافظ سيناء قبل حرب ١٩٦٧ والذي كان منزله بالحدائق في منتصف العريش وهي تقريبا اكثر من كيلو متر مربع فمكانه الان كل المصالح الحكومية ومديريات الخدمات وحوالي وأكثر من مدرسة.

وهكذا قد اقتطع جزء من الحديقة لعمل مسجد في الطرف البحري منه وكان المسجد مازال تحت الانشاء عندما التحقت به لمدة اسبوع تقريبا على مضض فقد كنت مرتبط بأمي ارتباطا شديدا ولا أريد أن افارقها ابدا وانا اخر العنقود ولا اتذكر من ابي الا يوم الجنازة برغم أن عمري وقتها لم يتجاوز العامين الا ببضع شهور، فذاكرة الأطفال غريبة منها ماهو يطبع فيها وكأنها كانت بالامس ومنها كأنك لم يكن بينك وبينها عهد.

واخذني أخي الأكبر وسلمني إلى الشيخ وانتظمت كارها الى ان كان اليوم الرابع لي وقد طلبت من الشيخ أن أذهب إلى الحمام لقضاء حاجتي ولكنه رفض لان الأطفال كانوا دائمي الطلب ذاته للتهرب من الحفظ المطلوب منهم وظللت اغالب رغبتي واطلب وهو يرفض وكادت مثانتي الصغيرة تنفجر فاضطررت للقيام مسرعا تاركا الدرس وبدون اذن وذهبت إلى وجهتي ولانني كنت أعلم انه سوف يعاقبني على مافعلت فهدتني نفسي الا أعود اليه متخذا طريقي إلى المنزل وقصصت ماحدث على امي، وفي اليوم التالي ايقظتني لكي أذهب كالعادة ولكني رفضت الذهاب بدون محامي الدفاع لان العقاب مازال قابعا في انتظاري.

ولم يكن ذلك متوفرا لان اخوتي أما في المدارس او في الشغل فلم اذهب وفي اليوم التالي اصطحبني أخي الأكبر إلى المصير المحتوم إلى كتاب الرجل” الغليظ” تحت تأثير الضرب بالعصا لاني كرهت هذا المكان الذي يعذب فيه الانسان جسديا ويحرم حتى من احتياجاته الطبيعية وأصبح نقطة سوداء ووصلنا إلى المسجد حيث كنا نجلس على الرمال أمام السبورة الخشبية وأكملت يومي ومازال الشيخ يتوعدني لأنني هربت.

ويبدو انه لم يكن مقتنعا بانني كنت محصورا حتى الطفح فزادني أمره كرها في المكان وعدت لاقص على امي شكواي وهي لاتنصت كثيرا وتتمتم انت اصلك اخدت على الدلع (اي دلع هذا) فلا اذكر انني اخذت يوما مصروفا او حتى ساندوتش أضع فيه همي بدلا من اكظم غيظي على ماء الحنفية اللاعذب الذي كان أمرا طبيعيا بالنسبة لكل من يعيش على هذه البقعة من الوطن.

وكان اخر يوم في هذا المحفل العلمي الإجباري عندما طلب مني الشيخ الوقوف لاقرأ واتلوا ماحفظت من الآيات وقد فعلت وبدلا من يقول لي كلمة تشجيع او ثناء نعتني بالهراب وكان هذا اخر عهدي بكتاب الشيخ “م” والذي اغلق بعد حرب ١٩٦٧ فاشترى ميكروفون وأصبح يؤجره إلى دواوين العائلات أثناء العزاء ولامانع من قراءة بعض آيات القرأن الكريم او لتجمعات الأفراح حيث كانت الأفراح تقام في الشوارع أمام البيوت بنصب عقود الانوار ووضع صفوف من الكراسي المؤجرة او السلف من الجيران واحيانا بعض السجاجيد.

وقد قرر أخي الأكبر أن أذهب إلى كتاب في الشارع الخلفي لشيخ اخر على مقربة منا في الشوارع الخلفية وكان المكان عبارة عن عريشة في ركن من البيت الكبير والجلوس على حصير والتحقت بالفعل به ولكني لم أكمل فيه أكثر من أسبوع حيث كان إلى جانب دراسة الكتاب هناك بسطة بها بعض انواع “الدروبس والحامض حلو” وهو مايعرف الان بالبمبوني ومن المؤكد أن من يشتري كان يلقى حظوة ومعاملة افضل فهذه طبيعة النفس البشرية.

ولاني أذهب بدون مصروف والذي لم اعرفه يوما طوال دراستي الا بعد أن قمت بالعمل في الاجازة الصيفية حيث اوفر لنفسي ملبسا وبعض مستلزمات المدرسة ومايفيض يتم ادخاره في الأيام البيضاء لأيام الدراسة العجاف، وهكذا فأكيد طبعا لن تكون لي نفس الحظوة فقررت أن لا أذهب وعانيت في سبيل ذلك أشد العقاب ولكني تعهدت أن اجلس مع كل واحد من اخواتي ماتيسر من وقته واحفظ معه ماتيسر من القرأن وان اؤدي كل مايملى علي من واجبات صحيحة اصبحت ملطشة لكل واحد شوية وواجبات طول أليوم حيث اقضي يومي منبطحا على الأرض اكتب دروسي او على طبلية الاكل اذا لم تكن مشغولة باحد اخوتي وهكذا استمر الحال انني بلا مكتب ولا مكان خاص.

حتى شارفت على بداية الدراسة الثانوية حيث انقسمت العائلة إلى نصفين فالأول هاجر اثناء حرب ١٩٦٧ والنصف الثاني كان كل من يحصل على الثانوية تحمله قافلة الصليب الأحمر الدولي إلى القاهرة ليستكمل دراسته الجامعية ولايجوز الا في الصيف في اجازة قصيرة برحلة عناء في المجيئ واخرى في العودة مرة أخرى بضوابط يفرضها الاحتلال تصل إلى ثلاثة أيام في كل رحلة.

ونعود إلى قصة الكتاب مرة اخرى فقد تركت هذه الأحداث أثرا سلبيا في حياتي عند دخولي المدرسة فكان يوما صعبا أن افارق امي وانا لم أبلغ اشدي لاذهب إلى المدرسة وأخشى ما اخشاه أن أجد فيها نفس معاملة الكتاب وقد ذهبت المدرسة في أول يوم “مدرسة احمد عرابي” بصحبة اختي الشقيقة الوحيدة رحمها الله وكانت تكبرني بثلاث سنوات وقد كانت في مدرسة الشهيد احمد عبد العزيز التي تجاور مدرستي.

وقد كانت تجلس إلى جواري طيلة الحصة الأولى ليطمئن قلبي حتى استطيع التعامل مع ” الشيخ” او المدرس الجديد وظلت هكذا على مدار اسبوعين او اكثر وتأتي لي في الفسحة لتطمئن علي وقد كانت تعاني من عقوبات التأخير حين تتركني وتذهب إلى مدرستها وقد فاتتها الحصة الأولى الى ان تفهمت الابلة بدرية الأمر واصبحت تلاطفني حتى تنزع الخوف الذي سكن جسدي النحيل والذي كاد أن يقضي على مستقبلي وربما تغيير بوصلة حياتي.

وبدأت اندمج مع زملائي بعد أن اطمأن قلبي بوجود الابلة بدرية والتي كان لها هي والابلة بهية فيما بعد اكبر الأثر في مسيرة طفولتي والتي اثمرت واخرجت أقوى واجمل مافيها بفضل الاحتضان المعنوي والاطمئنان النفسي واتذكر هنا تلك المدرسة التي كانت توبخ احد الطلاب يوميا لاهماله وتأخيره المستمر.

وفي يوم عيد الشكر احضر الطلاب أجمل الهدايا للمدرسة الا هو فقد حضر وكان رث الثياب ومعه بقايا زجاجة عطر لفها في منديل قديم واهداها لها فضحك زملائه وسخروا منه وعادت المدرسة لتفتح ملفات هذا الطفل لتجد انه كان متفوقا وانيقا فاستدعته وسألته من أين أتيت بزجاجة العطر فقال انها كانت لأمي وهذا منديلها وقد رحلت فلم أجد أغلى منهما لاهديه لك فاحتضنته في حسرة على ما كان منها وفي اليوم التالي جاءت وهي تضع المنديل في جيب سترتها العلوي وتفوح منها رائحة العطر اياه وتوجه الشكر له في وسط زملائه واقتربت منه لتسأله فيقول الان اشم فيك رائحة امي ليصبح طفلا اخر فيتفوق وينطلق.

وبعد عقود تتلقى المدرسة دعوة من احد الجامعات لتكريمها لتفاجأ بأن ذاك الطفل هو رئيس الجامعة وهو صاحب الدعوة هكذا كانت قصة “الكتاب”بضم الكاف والذي اثر معي سلبا والذي ربما كان له تأثيرا ايجابيا في كثير من ابناء جيلي والاجيال السابقة وربما خرج منه العباقرة ولكنهم اكيد لم يكن شيخهم يمتلك هذا الجفاء الذي ربما كان بغير قصد فعندما عرفت الرجل بعد عقود طويلة اكتشفت انه يناطح الغلب والقهر.

ولكن للانصاف وبغض النظر عن قصتي فقد تخرج علي يدي الشيخين رحمة الله عليهما أجيال ورجال سطروا قصص من الابهار والنجاح

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى