مقالات وآراء

التي أعدَّت موتها..‏

د. أماني فؤاد
‏(1)‏
أحكمتُ حزام المقعد، والتقطتُ أنفاسي الغاضبةَ، لماذا أنا؟!‏
قبضتُ بيدَيَّ على الذراعَين؛ لألتصِق بأيِّ شيء، رميت رأسي المنهَكَ الرافض إلى ‏الخلْف، لم أزَلْ لا أصدِّق، أجراس تدُقُّ في أُذُنَيَّ، وإعصار أسود يعصف بي، مَن لِبَناتي ‏الثلاث؟ تمنَّيت ألَّا يجلس بجواري أحدٌ في العودة، أشعر أن دموعي – التي انحبست في ‏صدري طيلة الثلاثة أشهر الأخيرة – ستنهمر، هو الموت إذن.‏
‏”لم تَعُد هناك جدوى من مواصلة العلاج”. هكذا سقطت الكلمات الأخيرة للطبيب الألماني ‏‏(جوستاف)، رفَع رايته البيضاءَ بعد أكثر من عام، قال: انتصر علينا الإرهابيُّ الصغيرُ ‏الذي شَيْطَنَ خلاياك. كان قد حاصره مِرَارًا، يحقنه في المناطق التي يحتلُّها من جسدي، ‏يصفه بأنه شديد الجنون. يفتقرون هنا لتجميل الصَّدَمات.‏
أنا المرأة التي ماتت مِرَارًا؛ بحثًا عن حياة حقيقة، أكثر ما كرهت الزيف. حين فتحت ‏جفوني التي باتت دون رموش؛ كانت الطائرة تُقلع، أشياء أخرى تغادرني، تنسحب من ‏كياني، لبرهة شعرت أنني لا أعرف من أنا، أعود إلى أين؟ منطقة بيضاء تسحبني، دون ‏أن أدري أتهاوَى.‏
أفيق، وأتراجع، أشياء كثيرة لم تَزَل عالقة، انتبهت على وميض يتسارع ويعلو في جروح ‏معصم يدي اليسرى القطعية، أعرفها هذه الآلام، تعايشت معها، منذ قطعتُ يدي منذ ‏سبعة وعشرين عامًا؛ يأسا وضيقا، وليعرف الجميع أنني جادة في خلعه، كيف لدمائي ‏التي احترقت بالكيماوي أن تظَلَّ تتوهَّج بضوء أو شعور، منذ شهور أراقب البقع السوداءَ، ‏العتمة التي تتَّسع أمام عينَيَّ.‏
‏(2)‏
مثل شريط سينمائي تتوالى كلمات (سارة): ‏
ــأين أبي؟ ‏
ــ لا أعرف. قلت وأنا لا أنظر إلى شيء.‏
ــ أسأل مَن عنه؟
ــ لا أعرف. أعدتُ قولي مرَّة أخرى: لا أعرف. ثم أعقبته سريعا: آخِر ما وصلني عنه أنه ‏افتتح “نايت كلَب” في الغردقة. ‏
ــ نظرتْ إليَّ طويلا ثم قالت: “ألم تقولي ضَعِي في خانة عمله أنه مهندس معماري؟” ‏
ــ نعم. كان مهندِسًا، لكنه غيَّر عمَله.‏
ــ لماذا لا تعيشان معًا؟. ‏
ــ انفصلنا وأنت صغيرة، لم تتجاوزي السنتَين. ‏
ــ لماذا؟ ‏
ــ لم يكن رجُلًا مسئولًا، حين وُلِدت أختُك (ريم)؛ احترتُ، لا تنتبه لشيء؛ ذاهلة دومًا، ‏حين وَصَلت للرابعة من عمرها؛ صدَمنا الأطباءُ بإصابتها بالتوحُّد. قال: سأُلقي بها في ‏مستشفى العباسية، لن أنفق مليمًا واحدًا. وعندما أردتُ إلحاقَك أنتِ وأختك بمدرستكما ‏الخاصة المميَّزة رفَض، قال: تعاملي أنت ووالدك. لو لم يكن يملك؛ ما غضبتُ، لكنه ‏ميسور الحال، كان بخيلا في كل شيء، عواطفه وعطاءاته. ‏
‏(3)‏
تخفَّيت كثيرًا وراء ضحكاتي، التي نثرتها فوق الأيام والسنوات، وانزويت كثيرا، جمعت ‏القوة التي وجدتُها داخلي، ووضعتُها في الصدارة؛ في قمة جبهتي، خلَّقتها بداخلي لِبَنَاتي؛ ‏لئلا يبحثن عن سَنَد، كيف سأتركهن في هذا العراء، ألا يمكن أن تبقيني قليلا أيها ‏الموت؟ ‏
أنا فقط من يستطيع قراءة ومضات معصمي التي تنفذ من الروح، أنا الهشة القوية، المرأة ‏التي حاربَت للتخلُّص من زوج بلا نخوة أو كرامة، من التعاسة، من صرامة أمي التي ‏رفضَت طلاقي، من عجزي أمام مرض ابنتي، أنا الهشة التي احتمت بالأشياء، وبحثت ‏فيها عن السعادة، أنا التي قابلت الحُبَّ ثانية، وتزوَّجت سِرًّا من رجُل حقيقيٍّ، فقط أبي ‏من كان يعلم، عِشْتُ معه سعادة النُّقصان، فلست من المخلوقات التي يستهويها الظِّل أو ‏الخفاء، في الأيام التي كنت أنسحب فيها من الحياة، وألوذ بنفْسي، وحدها (سماء)؛ ابنتي ‏الصغرى، كانت تأتيني لتكتب على ذراعي، فوق النتوءات: لا تذهبي، فأنا أحبك.‏
اعتدت كلَّما وَمَضَ معصمي؛ أن أناشد غضبي الهدوء، كنت أطبِّب نفْسي مع الحياة.‏
أنا الأم التي أعدَّت منذ شهور لموتها، نعم، أنا الطبيبة التي عرَفت أن أجهزتها ستوالي ‏فشلها واحدًا تِلو الآخَر، بات ما أجَّلته دومًا حتميَّ الحدوث، لابد من استئصال رَحِمِها، ‏‏(ريم) الشابة الجميلة، وجَعي ذو البشرة الحريرية، سأرحل، أنا ظِلُّها الذي لا يغيب، مَن ‏لها بعد أن أغادر؟ ‏
لن تكفي المتخصِّصة لحمايتها، سيظَلُّ جمالُها النقمةَ التي تجلب المتاعب، وهي لا حول ‏ولا قوة، ريم التي لا أعرف لماذا تعاقب رأسها كل حين، فتوالي ضربه في الحائط ‏بهستيرية.‏
أنا التي تغادر الحياة، أعددت حجْز الرحلة، قبْل أن أصل مصر؛ دعوت أبي والعائلة ‏وابنتي، هناك سأصارحه بما قال الأطباء، سأطلب أن يكتب وصيته؛ لأضمن لِبَناتي قادمَ ‏سنواتهن، أنا التي سأذهب لزوجة (أكمل)، وأطلب منها أن تسامحه، لم نكن نقصد أن ‏يحب أحدُنا الآخَر، أو أن تزهر الدنيا ونحن معًا. أنا التي سأوزِّع على بناتي أشيائي التي ‏احتميت بها، سأترك (ريم) تحت وصاية (سماء)، وأُطلِعها على ما هيَّئْتُه لتأمين حياتهن.‏
لُطفًا، أنا أيضًا التي ستخلع كل الأنابيب من يدَيْها؛ لتترك لمعصمها أن يومض بحُرية ‏ولو لمرة واحدة، أن تعلو نتوئات جروحه التي لم تلتئم أبدًا؛ أن يتنفَّس.‏

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى