تفرق كتير
أ.د.صلاح سلام
انه صوت يأتي من أعماق الأنثى الخجولة، التي تخاف من البوح عما في عالمها الذاتي من أحاسيس، وهي أفضل من غنت قصائدي وعبر عنها.. هكذا قال عنها نزار قباني، وأردف انه ربما يقرأ ديواني خمسة عشر ألف قارئ، ولكن بفضل صوت نجاة؛ فإن قصائدي ربما تجذب الملايين عبر الوطن العربي..
إنها صاحبة السكون الصاخب،وان ألحانه كانت أكثر أمانا معها، هكذا وصفها الموسيقار عبد الوهاب؛ فردت هي أنه أضاف لشخصيتي الكمال.. إنها الصوت الذي يشعرك بالذنب أن لم تحبه، فهي قيثارة الطرب، تفرق كتير عن أي صوت أخر، فهي صوت مصر الدافئ، الذي غنى وهي مازالت طفلة خمس سنوات؛ تغني أغاني أم كلثوم؛ وكان أول فيلم لها “هدية” وهي ثمان سنوات، واعتلت سلم المجد صغيرة؛ فكانت نجاة الصغيرة سنا وحجما.. لكنها أتت من بيت الفنانين؛ فوالدها الخطاط العربي الدمشقي محمد كمال حسني، وأخاها الملحن عز الدين؛ الذي تولى تدريبها على الغناء، وأخيها سامي حسني عازف التشلو، وطبعا أختها الجميلة سعاد حسني..
كتب عنها فكري أباظة وهي طفلة بأنها موهبة -يجب على الدولة وضع يدها عليها- وحرر عبد الوهاب محضرا ضد والدها لوقف تدريبها، ليتيح لصوتها أن ينموا طبيعيا.. أحاطت نفسها بكبار كتاب ومثقفي عصرها (محمد التابعي، ومأمون وكامل الشناوي، وفكري أباظة، ويوسف إدريس، وغيرهم..)، وتزوجت مبكرا من صديق أخاها كمال حسني، وأنجبت ابنها الوحيد وليد، وبعد خمس سنوات تقريبا؛ انفصلت ١٩٦٠ لتدخل زوجها في حياتها الفنية برغم حبه الشديد لها ولفنها، وعادت لتتزوج المخرج حسام الدين مصطفى في ١٩٦٧ لشهور، وانفصلت؛ ثم عاشت لابنها وفنها حتى الآن..
غنت نجاة الصغيرة أكثر من مائتي أغنية، لكن أجدني مشدودا دائما لشكل تاني للحكاء حسين السيد…(وحتى لما بتنسى مرة وتعاتبني بكلمة مرة.. العتاب المر برضه له حلاوة شكل تاني.. حبك انت… مرة واحدة حبيت واسيت من كسوفي كنت حاسة انك سامعني) كلام يدووب الحجر.. وينطق الصخر.. بصوت لم ولن يتكرر..
دائما اربط حسين السيد بعبد الوهاب محمد، فكلاهما من مدرسة فكرية واحدة.. وتفرق كتير عواطفنا لبعض فرق السما بعدها من الأرض.. الحب فوق كل ده يتحس ما بينا إحنا الاتنين بس لسيد مكاوي.. ويتوقف بليغ بلحن ومقدمة طويلة لتخرج القيثارة.. وفي وسط الطريق ووقفنا وسلمنا وودعنا يا قلبي ورجعنا الطريق وحدينا ودموعنا في عينينا يا قلبي ووصلنا النهاية.. أه من هم النهاية.. لمحمد حمزة…
كانت أول أغنياتها هي ليه خلتني احبك ١٩٥٥، وهي أغنية ليلى مراد، وكان سنها ١٦ سنة.. غنت الأغاني القصيرة، واندمجت بجمال وعبقرية في الأغنية الطويلة، واختارت من كلمات نزار ما يجمع بين الأناقة والبساطة التي تستكشف مواضع الحب والأمور النسائية.. القصائد التي لحنها عبد الوهاب فلا يمكن أن تخطئك “أيظن”، وفيلم الشموع السوداء مع المايسترو صالح سليم، وجمالها وروعة كلماتها.. اليوم عاد وكأن شيئا لم يكن وبراءة الأطفال في عينيه.. والى حبيبي أو متى ستعرف كم أهواك يا أملا أبيع من أجله الدنيا وما فيها، وقد غنتها في واحد من أشهر أفلامها الثلاثة عشر، وهو “وجفت الدموع” ١٩٧٦ في أقل من عشر دقائق، وغنتها على المسرح في الثمانينات في ساعة كاملة؛ وسط إعجاب وتناغم مع الجماهير وخاصة مقطع (ارجع إلي ارجع إلي..فبعدك لاعقد أعلقه..ولا لمست عطور في أغانيها.. لمن صباي لمن شال الحرير لمن؟ ضفائري منذ أعوام أربيها..ارجع إلي صحوا كنت أم مطرا.. وماذا أقول له لو جاء يسألني والتعبير الذي فاق الخيال..الحب في الأرض بعض من تخيلنا لو لم نجده عليها لاخترعناه..وطيف اهرب منه انه قدري وهل يملك النهر تغيير لمجراه…
أما لا تكذبي وما أثارته من حكايات حولها وكامل الشناوي، وكم كانت تذوب عذوبة وهي تشدو ماذا أقول لأدمع سفحتها أشواقي اليكي…ماذا أقول لأضلع مزقتها خوفا عليكي..أقول هانت..أقول خانت..أقولها لو قلتها اشفي غليلي…يا ويلتي..لا لن أقول أنا فقولي.. وتختلط بألحان عبد الوهاب لتشعل المشاعر وهي تحتضن الكلمات؛ فتمزق كل شرايين الحب، والجميل الذي يلفت نظرك؛ أن معظم الأغاني الجميلة جاءت في الخمسينات والستينيات من القرن الماضي، والتي بدأها محمود الشريف في عطشان يا أسمراني محبة، وهي أغنية لنهر النيل؛ صاغها الرائع مرسي جميل عزيز، الذي كتب أما براوة، والتي أصبحت أيقونة الحفلات والأفراح، بعد أن أحياها حسين الجسمي..
أما حدوتة ساكن قصادي؛ التي كتبها حسين السيد، والتي تتشابك مع معظم قصص الحب التي عاشها شبان مصر مع بنت الجيران، أو العكس، وفي يوم صحيت على صوت فرح..بصيت من الشباك زينة وتهاني وناس كتير دايرين هنا وهناك..هللت ما الفرحة وقالولي عقبالك.. ثم تكتشف أن صاحب الفرح هو حبيب القلب الذي اختطفته فتاة أخرى، وتكتمل القصة حتى ساعة الزفاف، وهي تقف ترمق حبيبها، وهو في أحضان غيرها.. وتمضي الحياة..
وبرغم هذا الصوت الحاني، وجماله الصافي، إلا أن عبد الوهاب ادخله الأغنية الوطنية في (نشيد الوطن الأكبر لأحمد شفيق كامل.. ووالله وعهدنا الحب في بلدنا أتعلمناه والله، والجيل الصاعد) وهما لحسين السيد، ويذكر أن هناك أغنيتين لحنهما لها أخيها عزالدين حسني، وهما (وعلى طرف جناحك يا حمامي لكتبلك مكتوبي للابنودي وحقك علي وسامح للبحطيطي)، وهناك كثير من الأغنيات مشتركة بين صوت عبد الوهاب وصوت نجاة ليس فقط لا تكذبي ولكن كل دة كان ليه.. وساعة ما بشوفك جنبي مقدرش إداري واخبي.. وبعد أن قررت القيثارة الاعتزال؛ خلدت إلى سكون قارب الخمسة عشر عاما؛ عادت بأغنية كل الكلام للابنودي من تلحين طلال ابن الملك فهد، وتوزيع يحى الموجي ٢٠١٧، وحققت مشاهدات عالية فور إذاعتها، برغم استخدام المؤثرات الصوتية الحديثة، ولكنها أعادت لنا بعضا من نفحات الزمن الجميل، فتحية لنجاة الصغيرة.. الكبيرة.. التي امتلكت صوتا وأداءً صعب، وربما مستحيل أن يتكرر.