مقالات وآراء
منمنمات بشرية.. قراءة فى رواية «لا تَمُتْ قبْلَ أن تُحب»
تكتب د. أماني فؤاد
في رواية «لا تمُتْ قبْلَ أن تُحِب» للكاتب (محمد الفخرانى)- أحدث إصدارات دار العين- تشعر أنك بإزاء كتابة بالمنمنمات البشرية، هناك تقصٍّ للمعانى الحيوية الإنسانية وتناسلاتها، فالروائى يحفر في المعانى والمشاعر والأحداث حفْرًا رأسيًّا، وتأويلها بطريقة مختلفة، واستنطاقها وتقليبها على جوانبها كافة، ينحتها ويشكلها من وجهات نظر متباينة، فلسنا بصدد نَصٍّ يحشد الأحداث؛ بل بصدد رواية شخصيات تُكتنز بداخلها مشاعر عميقة لكنها غير محددة، ومعانٍ وتفصيلات، مشاهد تحدث لكنها لا تكتمل، حيث لا تحقِّق الأقدار لقاءً بين البطلين لعائق في كل مرة، ولا يتم التواصل الغريب إلا في نهاية العمل في موقف درامى عميق.
يبدأ هذا التفرد والتباين من اختيار المؤلف لأسماء شخوصه، فحورية أبوالبحر- التي تتخصص في دراسة ومساعدة الأطفال المصابين بالتوحد- هي حورية البحر، ينجذب إليها الرومانسى منذ أن أنقذها من الغرق، يبحث عن البنت التي لم يرَ ملامحها، لكنه شعَر وقتها أنها لم تزل على قيد الحياة.
والطبيب الذي أنقذ حورية «رومانسى أهبل، عمره على الأقل 350 سنة»، يختار الكاتب تعريفه بنزوع نحو السخرية؛ وذلك لأن اقتناعات الرومانسى يصعب أن يتقبلها منطق بسهولة، الطبيب الذي يتصور أنه سيعيش لــ 350 عاما، أو الذي لم يتزوج لأنه ينتظر فتاة أنقذها، الرجل العاشق للبيانو الذي يمكن أن يكتفى بدقيقة حُبٍّ صافية وحقيقية مع حبيبته، والذى كل أمانيه أن تكون له طفلة صغيرة يُعِد لها العشاء ويمشِّط لها شَعرها.
وتشوكّا الذي تعشقه الكاميرا، تقول عنه حورية: «فى وجود غيرك تؤدى الكاميرا عملها لا غير، ولما تكون لوحدك، أما حبة عينها، نسمعها منها واضحة ومغرمة، تشوكّا».
يثمِّن العمل تلك المشاعر الصادقة التي لا يمكن استبدالها تحت ضغط أن يُسيّر الإنسان حياته كيفما اتفق، بل أن ننتظر اللحظة التي تضىء فيها ذواتنا لشخص بعينه. فيقدِّم النَّصُّ الحب بمفهوم متَّسِع؛ «الرومانسية ليست أن تقع في الحب كل يوم، وإنما أن يكون الحب حالتَك وتجربتك في الحياة».
تقنيات الراوى
وينوِّع الكاتب في الرواة؛ فتأتى بعض الفصول على لسان «حورية»، والرومانسى، وتشوكّا، ثم على لسان رَاوٍ عليم يقُص الحكايات عن المصادفات التي لم تكتمل مع حورية والرومانسى، رغم اقترابهما كثيرًا، وتتنوع أداءات صوت الراوى، كأن يوجِد الرومانسى من ذاته آخَرَ ويخاطبه، أو أن الراوى عليم ومفارق وهو الذي يحكى.. ثم تأتى بعض فقرات السرد كالملحق، خاصة فيما يتعلق بالمعلومات عن المصابين بالتوحد، وأيضا عندما يصف تشوكّا الصُّور التي تحدَّث عن أثرها على العالَم.
المشهدية في بناء الشخصيات
وللروائى طريقته في رسْم الشخصيات، فعند بناء شخصية الرومانسى؛ يقول الراوى: «لو عرفت البنت أنك تمشى حافيًا ليلا في ردهات المستشفى، حتى في غير الأقسام التي تعمل بها، كى يراك المرضى فيطمئنوا»، فالكاتب يشكِّل طبيعة الرومانسى عبْر المواقف؛ وعلى القارئ أن يستكملها من مشاركته في بناء السرد، وهو ما يستند إليه الروائى في بناء شخوصه، لا الاستغراق في الحكى والاسترسال فيه.
تشوكّا مصوِّرٌ حُر، يجوب البلاد بروح تلتقط فلسفة الكون، ويتبدَّى عالمه في استخدامه للضوء والظلال، يوظِّف الروائى فنَّ التصوير؛ ليشتبكَ نَصُّه مع قضايا الواقع من حوله، لكن بصورة إنسانية عميقة.
يهيِّئ السرد فُرصًا متعددة للِقاء يمكن أن يحدث بين حورية والرومانسى، حيث لا يبتعدان سوى أمتار معدودة، أو يكون فَرق التوقيت لإمكانية لقائهما دقائق أو ثوان؛ لكنهما لا يلتقيان، وفى الوقت نفسه يؤمن كل منهما بأنهما سيلتقيان. يجسد تكنيك السرد على هذا النحو رؤية عميقة بأقدار الحياة، وأنها الأجمل على النحو الذي تحدث به؛ يقول الراوى: «المسافة بينكما ثلاثة أمتار، أو أربعة، لكن أيًّا منكما لم يتحرك، هل يجب على الصُّدفة أن تأخذكما من أيديكما وتُقدِّمكما إلى بعضكما البعض؟». ويبرع الروائى في تلك المشاهد ويضعها في طقس سحرى خاص، مثل مشهد عزْفهما في نفْس الجاليرى.. هو على البيانو، وهى على الساكسفون. تلك الطريقة في بناء الحكاية توفر مقتضيات التشويق للقارئ.
ويقدم الروائى التراجيديا الرومانسية بمنحى متجدد، الحكاية التي تكتظ بالمفارقات المحلقة دون أن تكتمل، ودون أن ينجرف إلى تجسيد ميلودراما فجة تعتمد على فواجع الأقدار، رغم أن القصة قد تهبه تلك المساحة، خاصة في المشهد الأخير للقاء البطلين، لكن للكاتب خيارات أخرى، يصبو لتجسيد معنى للإنسانية العميقة، وبيان رهافة شخصياته الدرامية التي يرسمها دون نمطية.
ويهَب النَّص متلقيه منطقة بينية بلون الغرابة، وهو ما يمنح النَّص بُعدًا روحانيًّا مغايرًا، منطقة لا تخضع للسبب والنتيجة؛ بل بمنطق نستشعره في الحياة، لكننا لا نستطيع القبض عليه؛ تقول حورية: «شُفت رسالة على تليفون صديقتى، قالت إنها وصلتها من شاب مدفون في مقابر (الكومنولث) من سنين طويلة، يشكرها في الرسالة، لأنها كلَّما تضحك؛ ترجع له روحه، الرسالة معها رقم، كأنه لتليفون أو وسيلة اتصال أخرى، صديقتى لم تتصل بالشاب، تقول إنها تعرف أن ضحكتها لن تصل إليه لو حاولت الاتصال به، وأنه لا يعرف ذلك».
وتحكى حورية: «أدارت الدراجة وجهها لى، ابتسمنا، والتفتنا إلى اليمين، رمل أغبش، راح البحر، سمعت ضحكة بحرية تأتى من ورائى، التفتُّ؛ في نفس الوقت لوت الدراجة رقبتها، لقينا البحر قاعدًا على المقعد الخلفى».
ويحكى تشوكّا لأخته عن كاتب متجوِّل: «نزل الكاتب في محطة يشوفها لأول مَرة.. وبمجرد نزوله من بابها؛ لقى نفْسه في زمن ومكان مختلفين عن زمنه ومكانه، ومن لحظتها وهو ينتقل في الزمان والمكان بدون قصد منه، قال لى إنه يتكلم لغةَ كل مكان ينتقل إليه».
للكاتب (محمد الفخراني) صوت روائى متفرد في المشهد الروائى المصرى، حيث يقدم العمق البشرى في أكثر حالاته فلسفة وإنسانية عذبة، ويمكننا استخلاص مجموعة من سمات أسلوب الكاتب، فهو ينساب فصيحًا ومعبِّرًا عن أفكار عميقة.. عادة ما يكسر الكاتب الأسلوب الفصيح في السرد في لحظة؛ تتحدث حورية عن حادث غرقها: «تعرفون عمرى وقتها؟.. 17.. 17 ربيع، 17 صيف، 17 شتاء، 17 خريف، ياما.. صح؟».. فيأتى بتعبير يقترب من العامية؛ ليُشعر القارئ أنه قريب من السرد بما يحمل من التلقائية، وكأن الشخصية على مسرح تخاطب مشاهديها وتشركهم في رأيها في الأحداث.
ويتمتع النَّص بلغة تحمل قدْرًا من الشفافية والرُّقى، فيقول الراوى العليم: «أنت (حورية) وعشاق المشى في المطر، تعرفون أن المطر سيتوقف نهائيا عن زيارتنا لو جاءنا مَرة ولم يخرج أحدنا ليتمشى معه».
يقدِّم الفخرانى عالَمًا ترى فيه الأشياء والمعانى على اتساعها متوحدة مع الكون، يعيد تشكيل الواقع وفْق قناعته؛ لذا تأتى سردياته بتنوع عوالمها حول علاقات الإنسان بالتاريخ البَشرى في بعض نصوصه السابقة، مثل «ألف جناح للعالم» و«مزاج حر»، و«بكهوفه النفسية العميقة»، فيمتلك مقومات التعبير في تكنيك سردى يُعد مزيجًا من الواقع الذي يعلو بعوالم المخيلة التي تبنى صروحها الفكرية والإبداعية.