مقالات وآراء

“نفخة الروح”

الكاتبة الصحفية : نهى البلك

تشرق الشمس, فتبدأ العيون في إدراكها, كلٌ بحسب حساسيتها وقوة إبصارها, وسلامتها من الأسقام؛ ولا يدركها الأعمى إلا بحواسه الأخرى, بالسمع ربما, إذا بدأت أصوات الحياة تدب في الطيور والناس وسائر الكائنات. 
كذلك كل ما ندركه بأجسادنا وما وُهبنا من حواس, تتفاوت مقدرة كل منا بحسب صحته وسلامته وقوة جسده وحواسه.         
ولكن هناك ما لم, ولا, يمكن, حتى الآن, قياسه جسدياً, ويختلف إدراكه وتقييمه من إنسان لآخر؛ كالجمال, كيف ندركه ونميزه ونستشعره؟ فهذا لا تكفيه سلامة الحواس وإلا فكيف تختلف فيه المعايير من جماعة إلى جماعة ومن زمن إلى زمن ومن إنسان لآخر؟ ولا يتأتى بالعلم, وإلا فكيف تختلف الأذواق بين دارسي الجمال والفنون أنفسهم؟ 
كيف ندرك المحبة, أو الراحة والسكينة تجاه إنسان دون سواه, كيف نصف شخصاً ما بأنه يمتلك حضوراً, أو “كاريزما”, أو أن له هيبة أو أن في وجهه نوراً, ما النور الذي نقصده؟ 
هذا من أمر الروح.. “قل الروح من أمر ربي”
كيف يرف بداخلنا حنين إلى أناس لم نلتقهم من قبل, بل وربما تفصلنا عنهم مسافات مكانية, أو زمانية, أناس يحيون في جانب آخر من الكرة الأرضية, أو يسكنون -فيما ندرك- باطن الأرض, ولكن وصلنا منهم أثرٌ أو عنهم سيرة. 
ندرك كل ذلك وأكثر بشئ خارج أجسادنا, أو ربما وقر منها مكاناً لازلنا لانعلمه, وقد يعلمه أناس بعد حين.. “وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً” 
هذا العلم وهذا الإدراك يمكننا تتبعه, من قبيل التفكر والتدبر وليس من قبيل العلم اليقيني, كما كل العلوم الإنسانية والاجتماعية التي تنبني قواعدها على التأمل والتحليل الفكري, خارج المعامل, وأبعد من الحواس ومنطقها. 
هل يمكن أن يكون لهذا النوع من الإدراك الذي لا يرتبط بمكان ولا بزمان, ولا بعقيدة أو انتماء إيماني أو فكري أو ما سوى ذلك, علاقة مباشرة بالنفخة الأولى, في آدم, التي شملت البشر كافة بسرٍ خفي؟ به يتواصلون ويتوادون ويدركون ما لا تدركه الأجساد والحواس, ويحنُّ بعضهم إلى بعض ويأتلف بعضهم بعضاً على رغم الزمان والمكان؟.. 
“وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا ۛ أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ “.. 
هل كانت شهادتنا على أنفسنا قاصرة على التوحيد؟ أم أنها شهادة بأننا نمتلك سراً ندرك به الإيمان ودلائل الربوبية, وندرك به ما لا تدركه أجسادنا وحواسها, وأن هذا السر مصاحب لنا, حي, منذ كنا في ظهر آدم وعلى مدار الزمان؟ لا يقتصر على عالم الذَر, وإنما يستمر معنا بعد ميلادنا على الأرض الضيقة المحدودة بالأجساد والحواس وسجنها؟ إدراك نستطيع نحن تفعيله وإحياءه ببقائنا على انتباه له, ونقتله, كحاسة أُهملت, إذا ما تغافلنا عنه بشواغل الجسد والحواس والدنيا ولهوها؟.. 
وإلا ففيم أقمنا على أنفسنا الشهادة إذا انفصل عنا هذا الإدراك وفقدناه بدخولنا الاختبار على
الأرض؟! 
  الزمن موصول 
ما كان، مستمر 
والمستقبل، حاضر.. 
أنت هنا وهناك، كنت وستكون، كائن منذ خلقت.. 
الآن، في عالم الذر، تشهد في كل لحظة: “بلى شهدنا” 
وفي سكناك الأبدي، تعرف جيرانك و يعرفونك، ولأرواحكم ذكريات نعيم مقيم، أو عذاب جحيم.. 
وهذه الأرض تراوغك، 
لتحمل جثة قتيلك، 
وتأتي ببرهان 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى