مقالات وآراء

كائن كامل الأهلية..‏

تكتب د. أماني فؤاد
لماذا تُسَنُّ الدساتير، ومواد القوانين المختلفة؟ ‏
أحسب أن الإجابة هي: لتحقيق العدل، وضبْط المجتمعات وتعاملاتها شَتَّى، والوصول ‏بالإنسان “المرأة والرجُل” للسواء والسلام مع ذواتهم والآخَرين.‏
هل المرأة إنسان له الحقوق كافة والواجبات، خُلقت لمشاركة الرجُل الوجود، والسعي معًا، ‏كلٌّ وفْق طبيعته وقدراته، وفي حالة من التكامل، أم أنها كائن خُلق لأجل طاعته وخدمته ‏ومتعته؟
هل لو أن المرأة اشتركت بنِسَب عادلة في وضْع القوانين، التي تنظم الحياة الأسرية، وفي ‏أنواع القضاء كافة، واشتركت أيضًا في تفسيرات النصوص الدينية منذ قرون، وبافتراض ‏جدلي، لو أنها كانت في التاريخ “نبية”، ورُوِيَ عنها بعض الأحاديث، كان من الممكن أن ‏ترضى بما يُطلِق عليه البعض أن تلك القوانين – التي لا تراعي حقوق المرأة – تجليات ‏لشرْع الله؟ هل يمكن أن يمَس شرْع الله ظلمًا؟ أنا على ثقة باستحالة أن يكتنف النور ‏ظلامًا، الله هو العدل. ‏
ما هو مبرر أن تتخلَّى المرأة المطلَّقة عن حضانة أطفالها لو تزوجت مَرَّة أُخرى، كما لا ‏يعود لها ولاية على أولادها؟ ما هو مبرر تعنُّت الأب الذي طلَّق امرأته، وضرورة أخْذ ‏إِذْنه في حالة سَفر الابن، الذي في حضانة أمه للعلاج بالخارج معها؟
ربما يوجد عند البعض مبررات للسؤالين السابقين؛ فقد يقول قائل: إنها لو تزوجت ثانية؛ ‏ستنشغل، ولن تعود مهتمة بأولادها من الرجُل السابق، وإنها هي التي قد تريد التخفُّف من ‏أعبائها وأعباء أولادها، ورأيٌ آخَر قد يقول: في حالة ضرورة أخْذ إِذْن الأب؛ إنها ربما ‏تهرب بالابن أو الابنة بعيدًا عن الأب، وتلك حالات قد تحدث، ولا أريد أن أدَّعِيَ أن ‏المرأة ملاكًا لا يخطئ أو يتعنَّت هو الآخَر.‏
لكن ملاحظتي تنصَبُّ على شيء آخَر؛ أن التوجُّه العام في الثقافة الذكورية يريد أن ‏يسلب المرأة كيانها الإنساني، الذي يستطيع بذاته، يستطيع أن يقرِّر وأن تَصدُر قراراتُه ‏عقلانيةً، وأن يتَّسِم بالسَّواء والعدل، يرسِّخون للوصاية الدائمة عليها تحت ادِّعاء أنها ‏كائن تتحكم به عواطفه وجسدانيته، وأنها تُعلي شأن الشِّقَّين، وتجعلهما فوق اعتبارات ‏التعقُّل والاتزان، وهو ادِّعاء منافٍ للحقائق بصورة فجَّة، فَكَمْ من النساء التي بلا حصر ‏اقتصرت كل حياتهن على تربية الأولاد فقط، بعد أن طُلِّقن، وتَرَكْنَ كل احتياجاتهن لكي ‏يبقى أولادهن معهن.‏
هل يمكن أن نقول إنها رغبة المفسرين الرجال، الذين فسَّروا الشَّرع بنوازعهم الذكورية ‏في الهيمنة على المرأة، وحرصهم على امتداد تملُّكهم لها، حتى لو تركوها، ولم تعد ‏زوجة لهم، نوعًا من التسيد واستمرار الملكية المضمَرة، التي تأخذ شكل الاحتكار لهذه ‏المرأة، التي ارتبط بها يومًا، الملكية تحت غطاء أطفاله التي معها، يتناسى هؤلاء ‏المنغمسون في نوازع ذكورية مجتمعية ودينية، أن عاطفة الأمومة لدى معظم النساء هي ‏الأعلى، ولها الأولوية، وأن من حقها كإنسانة – إذا انفصلت – أن تستكمِل حياتها، ‏وتختار من يُسعدها، وأن لحياتها كالرجُل جوانبَ متعدِّدةً، وتستطيع أن تواءم بينها، من ‏حق الجميع وقْتها – الرجُل والمرأة والأولاد بينهما – أن يتم التوافق بينهم على شكل ‏الحياة الأكثر ملائمة للجميع.‏
لماذا نستمر نرسِّخ أنه على المرأة أن تكون كبش الفداء، وأن تحتمل بمفردها نتائج فشل ‏العلاقة الزوجية، فمن حقها الإنساني أن تبدأ حياة أخرى، لو أن حياتها السابقة فشلت، ‏ومن حقها أن يظل معها حضانة أطفالها الصغار، لو أنها ارتبطت مَرَّة أخرى، منطق ‏الأمور وطبيعة المرأة يقول: إنها لن تهمل أطفالها، ولن تجعلهم الدرجة الثانية من ‏اهتماماتها، هذا هو الأصل، العكس هو الأمر الشاذ، وللأب وقتها وللقضاء إذا حدث ‏الاستثناء؛ أن يُسقِط حضانتها، لو أنها أهملت أولادها.‏
هل يفكر المجتمع، والرجال مفسِّري الشرع، وواضعي القوانين، في المرأة على أنها كائن ‏كامل الأهلية، متَّزن وعقلاني؟ هل يفكرون فيها أنها كائن يستطيع بذاته دون الاعتماد ‏على آخَر يأخذ لها القرار، هل فكر الجميع أن المرأة، التي كانت في العصور الأولى ــ ‏حين إقرار بنود هذا الشرع ــ تغيَّرت بصورة جذرية مع التطورات التي لحقت بها مع ‏الزمن، والتطورات التي لحقت بشخصيتها؟
‏ لماذا نترك قضايا النساء تأكل أعمارهن، ونفسياتهن، وتصيبهن بالأذى المادي والمعنوي ‏سنوات وسنوات، لماذا لا نتوجَّه لتلك القوانين التي تسحق المرأة في المحاكم والقضايا، ‏وتتركها تُستنزَف ماديًّا ومعنويًّا مع دوَّامة المحاميين، ومراحل التقاضي المختلفة، وعدد ‏من القضايا المتعددة التي تعالج كل فرعية على حدة. لنُسائل تلك القوانين عن عقلانيتها ‏ومنطقيتها وإنسانيتها، وهل تراعي حقوق المرأة ككائن إنساني مكتمِل القدرات ‏والاحتياجات، لماذا لا نطالب بالقضاء الناجز، الذي لا يتركنا نهبًا للسنوات تأكل من ‏ذواتنا قضمة بعد إخرى إلى أن تشوِّهَنا؟
هل نحن بحاجة لإعادة النظر في تفسيرات دينية واجتماعية في لحظتنا المعاصرة، أقوال ‏تصف وتخص المرأة وتتردد على أفواه الجميع من قبيل: “ناقصات عقل ودين”، “خُلقن من ‏ضِلع أعوج”، “اضربوهن واهجروهن في المضاجع” و”إذا دعا الرجُل امرأته إلى فِرَاشه فلمْ ‏تأتِه، فبات غضبان عليها؛ لعنتها ملائكته حتى تصبح”، أو “لو كنت آمرًا أحدًا أن يسجد ‏لإحد؛ لأمرتُ المرأة أن تسجد لزوجها” أو “لن يفلح قوم وَلَّوا أمرهم امرأة”، هذه الأسئلة ‏التي أثَرْتُها مِرَارًا في مقالات سابقة، والتي أثيرت الأيام الماضية على نطاق واسع بعد ‏عرْض مسلسل “فاتن أمل حربي”. ‏
لعلنا جميعًا لاحظنا احتقان الرأي العام في المجتمع المصري، وجنوحه نحو التعاطي ‏بعنف مع كل رأي يختلف عمَّا اعتاده، حيث رسَّخ له الخطاب الاجتماعي والديني طويلًا، ‏فكلَّما أثيرت إحدى القضايا – التي يكتبها التنويريون، وتُعالَج دراميًّا أو إعلاميًّا، ويتم ‏من خلالها إعادة النظر في بعض المفاهيم الراسخة لدى الجموع، أو طرْح متجدِّد يُناقِش ‏بعض الآراء الموروثة في التراث والثقافة العربية والإسلامية، وتقديم رؤية مختلفة لذات ‏القضايا، منظور معاصر يعتمد على العقلانية، ويراعي حقوق المرأة ككيان إنساني غير ‏منتقَص في الحقوق والواجبات – كلَّما ثار الرأي العام، واعترضت بعض المؤسسات ‏بطريقة عدائية تجنح للترهيب والحَط من أي اجتهاد، أو رؤية أخرى تشمل مناظير ‏إنسانية لمعالجة بعض موروثاتنا، التي تعتمد على اجتهاد العلماء في عصور ماضية، ‏هذا الاحتقان والرفض وتكفير المختلِف، دون فتْح حالة من النقاش والثقة في اجتهاد ‏العقل البشري، ومنجَز الحضارة العالمية، ودون النظر للَّحظة التاريخية التي نعاصرها، ‏وما اكتنفها من تحولات تخص شأن المرأة، هذا العداء للعقلانية لن يجعلنا نترك أو نبارح ‏أماكننا، أوضاعنا التي يكتنفها الغبن والجور على الكثير من حقوق المرأة.‏
‏ إن خطاب الإصلاح والتنوير لا يمكنه أن يجد مسارًا في الوعي الجَمْعي لمجتمعاتنا ‏العربية في ظِلِّ هذا التردِّي الثقافي، واستقواء السلطة الدينية، بتياراتها التي ترفع شعار: ‏لا اقتراب ولا مساس بأيِّ موروث مهما تنافَى مع العقلانية.‏

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى