مقالات وآراء

المجاز.. هيمنة الحضور في رسائل “ثورة الفانيليا”

د. أماني فؤاد
فى مؤلَّف «ثورة الفانيليا» للكاتبة (هبة الله أحمد) نحن بصدد جنس أدبى متدَاخِل التقنيات، يتشكَّل من عدد من الرسائل التى ارتبطت بعوالِم المطبخ والطهى، حيث المكان الذى تميل له شخصية البوح وتستمتع بتفاصيله وروائحه وألوانه، وتجِد فيه عالَمًا تعويضيًا وملاذًا يشغلها، تفرِّغ فيه طاقتها على العطاء، والبحث عن الجَمَال والتميُّز والتماهى مع الموجودات من حولها، لكنَّ هذه الرسائلَ أيضا تحمل بعض تقنيات المتواليات القصصية واليوميات.
قسَّمت الكاتبة الرسائل إلى سِتِّ مجموعات، تحمل عنوانات: (الرسائل.. لماذا؟/ النوَّات/ الكوارانتينا/ فرويديات/ متنوِّع/ جنس أدبى ضار). وكل هذه الرسائل موجَّهة للحبيب، الذى اختفى، وأحسب أن زمن كتابتها استغرق سنة، وتحديدًا عام 2020، وفيها تبوح الساردة بأوجاعها من الهَجْر الذى لا تعرف لماذا كان اختيارَ حبيبها. وتتمحور بنية الرسائل الدالة حول صراع داخلى وحيد ومُهيمِن، تعانيه الساردة وتتوجَّه به لمخاطبة حبيبها المنسحِب الغائب.
لا تتضمَّن الرسائل شخوصًا إلا الساردة وحبيبها، الذى أصابه الملل؛ فاختفى. على استحياء تظهَر أمُّها، وأختها، وأبوها فى جُمَل مفردة فقط، فلا تصاعُد لأحداث، لا قَصًّا فى الرسائل حول بدايات قِصة حبهما، ولا أسباب للهجر، لكن الحكى ينحصر فى تجليات وتداعيات شعور الساردة بالفقد، حيث تقدِّمه فى الرسائل كلِّها بتنويعات مجازية مختلفة، فيض من مشاعر المحبة التى تريد العِتَابَ وتخجل منه، كلمات توَدُّ لو أنها قَسَتْ؛ لكنها لا تقوى على القسوة، تراكيبُ ومعانٍ تترك للأمل أبوابًا؛ لعلَّ الغائب يدْلف منها ويعود، كل هذه التنويعات عبْر شبكة من العلاقات المجازية، تقول: «أما نحن سكان المدن الساحلية، اعتادت جدَّاتنا صُنْع الجوارب الصوفية لنا ونحن رُضَّع، ويَحِكْنَ لنا من ماء البحر أوشحة زرقاء، يستخدمن الحكاياتِ الغارقةَ بالأسرار، كإِبَرٍ تروح وتجىء فى أيديهن مع كل تنهيدة، يترُكنَ طرف الخيط منسولًا؛ ليكون فخًّا للأمل والألم، وشَبَكة كبيرة لصيد الشمس والضحكات».
مشاعر العُزلة
تجسِّد الكاتبة هذه المشاعرَ للقارئ فى تشكيلات لغوية مجازية تمتزج مع عالَم المطبخ وأشيائه، روائحه وألوانه، فَلشِدَّة شعورها بآلام الفقد والوحدة؛ تطوِّع كل الوسائط المحيطة بها، بجانب عوالِم الطبخ والأكلات، مثل النوَّات والكوارانتينا؛ أى العزلة التى تسبَّب فى فرْضها فيروس كورونا، كما تستفيد من تخصصِها فى الصحة النفسية أيضًا لخدمة التوكيد على معنى جوهرى يصوِّر فَدَاحَةَ الفقد، ويجسِّد مكابدات عاشقة تشعر بالظلم، واختفاء الحبيب لجُبْنِه، أو الادِّعَاء بعدم احتماله لفيض مشاعرها، أو قوله إنَّ ابتعادَه عنها هو الأفضل لها.
وكما توارَثْنا مقولة: إن المصائب لا تأتى فرادَى؛ اجتمع على كاتبة الرسائل هجْرُ الحبيب، وعُزلتها جرَّاء جائحة كورونا، والرُّهاب الذى سبَّبته، خاصة فى أول ظهورها، وبرودة الطبيعة الغاضبة فى النوَّات، وشعورها بالوحدة والغربة، وتطلَّب كل هذا تعويضًا؛ تعويضًا عن هذه الشحنات السلبية التى اجتمعت، ثم لحقها مَرَضُ أختها أيضا؛ فلجأت الساردة لعالَم المطبخ الذى تحبه؛ لعلها تعيد تعريف نفْسها والآخَر، هى والمطبخ، وفيه أيضًا تجد متنفسًا لطاقة الرفض الكامن بداخلها، حيث لا تستطيع البوح للمحيطين بها. فى المطبخ تنطلق دموعها، وأغنياتها، ورقصاتها، التى تضفِّرها مع قَصِّ يومياتها فى الرسائل.
عشق التفاصيل
أخرجت الكاتبة المطبخ–فى الرسائل–من حسيته ومادّيته لعالَم متعالٍ معنوىّ، تتماهَى فيه الساردة مع صناعة أكلات جميلة، تتميز روائحها ونكهاتها، تُهدهِد به ذاتها التى تبحث عن خلاص من آلامها. تقول: «الشهية للطَّعم الجيد قد تكون هى الهَوَس الأكبر الذى يقوَى كل يوم عن سابقه، الذى تفتقده شهيتنا للأحاسيس التى نعيشها، ولا تعرف الشبع».
ويتبدَّى المطبخ–فى رسائلها–عرينَ أنوثتها المتوارية، وتُصِرُّ الساردة على (ياء) النسب المُلحَقة بالمطبخ؛ ليكون دومًا «مطبخى»؛ أى أنه عالَمها الذى تتحقق فيه، وتمارِس ما تَهواه، على نقيض ما ترى بعض النساء من أن حصْر معظم أوقاتها بالمطبخ اعتقال لوقتها وقدراتها.
وكما تُكتب بعض الأعمال الروائية بضَفْر عوالم السرد بالفنون التشكيلية، أو الموسيقى، أو عوالم السينما، أو المعمار؛ تكتب هبة الله محمد رسائلها بفنون الطهى، وروائحه ومذاقاته، وتدلف منها لنفسها وللعالم، والعلاقات من حولها.
إن مزْج الساردة للتفاصيل الإنسانية الدقيقة ومشاعرها الشفيفة باستمتاعها بالطهى، وداخِل وصفاتها للأكلات، والمخبوزات، والحلويات، فى القهوة، والنعناع، والزعتر، فى الفلفل، والقرنفل، والقرفة؛ هو ما يَهَبُ الجديد فى الكتابة، وإن كانت السرديات الروائية قد سبقت إليها، ففى رواية «برتقال مُرّ» لـ(بسمة الخطيب)، تنتظر شخصية السرد حبيبها القادم خلال ساعات وهى تطهو له الأكلات الريفية اللبنانية، فى هذه الفترة تحكى حكاية عمرها، وحكايات لنِسْوَة أُخريات عاشت بينهن.
موروثات الخنوع
تقدِّم الساردة فى الرسائل مشاعر المرأة التى تُحب بتقليدية موغلة، امرأة محمَّلة بموروثاتها المجتمعية التى ترى فى خنوع النساء حُبًّا، تقول: «تخيَّلتك هنا تتسيَّد هذا المقعد الوثير، تحكى لى تفاصيلَ يومك، وأنا أفرُك قدميك ببعض الماء والملح، ولا مانع من وجود سحابة بخور عنبرية.. وكشهر زادتك، أؤنسك بحقائق مضفَّرة بالخرافات، أهدهدك كطفل حرون فى حِجرى. لِمَ يا صديقى بعض أنصار المرأة يرَون كُمُونَ براكينها خلْف حنانها ضعفًا؟» ولعلنا نتساءل: هل يستوجب أن يعبَّر عن الحنان فى مشهد نستقرِئُ به التعالى من طرَف والخنوع من الطرف الآخَر؟ للاستيعاب والمحبة والحنان صُوَر ومَشاهِد أخرى دون شك! للحوار مع المرأة والإنصات لعقلها ووجدانها مُتَعٌ لا حدود لها.
وكأن التراثَ، والموروثاتِ، والعاداتِ، والتقاليدَ–حتى فى المشاعر الإنسانية–مجرَّدُ شفرة وراثية، نتناقلها جيلًا بعد جيل فى المجتمعات العربية دون مناقشة أو تغيير أو تمرُّد أو حتى اِختبار صِحة، شفرة تلتصق حتى بالمبدِع، رغم ما يُفترض فيه من ثورة دائمة، تنتصر للكرامة الإنسانية، وخاصة فيما يتعلَّق بحقوق المرأة وما يليق بها.
تشكيلاتٌ ورؤى
وأحسب أن ميزة الرسائل الأساسية فى قُدرة الكاتبة على صياغة مشاعر فقْدِها لحبيبها وصَهْرها باهتماماتها بالطهى عبْر شَبَكة من العلاقات المجازية بكلِّ صوَرِها؛ بالكنايات، والاستعارات، والتشبيهات، فيضٌ من الصور الجميلة المبتكَرة، التى تدلِّل على اتساع عوالم مخيلتها وقُدرتها على خلْق وربْط علاقات متجدِّدة بين الأشياء والمعانى؛ تقول: «اليوم اجتاحنى صمت طويل، أتكوَّر على نفسى ككُرَة صُوف تشتبك خيوطها. تبنَّيت نظرية (كوسلين) للتصوُّرات الذهنية، انسَقْت تمامًا لأحاسيس مرئية تختلط بكيانات عقلية متذبذبة، وتخيَّلتُنى خيطًا ضَلَّ طريقَه عن الإبرة، التى أرادت وخْز القماش؛ لتخيط ثوبًا لعيال الجوع والفقر وأصوات القنابل».
كما تتبدَّى الميزة الإضافية أيضًا فى تخلُّل بعض الرؤى العميقة لهذه التشكيلات والتراكيب اللغوية، المجازيَّة، المبدِعة، مثل قولها وهى تصف الأُرز تقول: «غالبًا ما يعامِل الجميعُ الأُرز بحيادٍ تام، لا يولونه اهتمامًا كبيرًا، متناسين أنه العامل المشترَك لأفخر المآدب وأفقرها، حَبَّات الأُرز تشبه النساء العاديات الجمال، يَسِرْن فى مواكب الحياة بصمت حثيث، لا يلفتن إليهن النظر، وهُنَّ يحْمِلن أطفالَهن وأزواجهن، بل الحياة نفْسَها فوق رؤوسهن متنقلاتٍ بين الحافلات العامة… بلا عطور ثمينة وعيون صاخبة، إلا أنهن ذخيرة الحياة الحيَّة». كما أن بروزَ الروح التلقائية–التى تتمسك بالمحبة والعطاء، رغم الشعور بالخذلان–ميزةٌ أخرى، روح تتحلَّى بالمقاومة، تَهَب الآخَرين ممَّن حولها خيراتٍ ممَّا تصنعه يداها، أكلات مغمَّسة بالعشق والمحبة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
%d مدونون معجبون بهذه: