أخبارمقالات وآراء

بالصور..نور القديسة كاترين فوق جبال أرض الفيروز بمصر

بقلم : إنتصار عبد المنعم

مغامرة فوق جبال سانت كاترين ..

صعود 2285 مترا لمشاهدة شروق الشمس!

سيناء أرض الفيروز، معبر الأنبياء، قلب مصر النابض بحكايا و قصص الغزاة المقبورين تحت رمالها، سيناء ابنة (إله القمر- سين) وسيدة الفيروز الإلهة (حتحور)، يأتي إليها الناس من كل الدنيا من أجل مشاهدة لحظة ولادة شمس الكون من بين ثنايا الغيوم، ومن رحم ظلام سماء مرصعة بآلاف النجمات؛ نجمات أرض الفيروز سيناء، وشمس سانت كاترين، ونور القديسة كاترين؛ ابنة الإسكندرية.

المرحلة الأولى “المدق”
الرحلة إلى سانت كاترين، ليست سهلة، فالطرق وعرة جبلية، ولكن الطبيعة الساحرة طوال الطريق تهون من قساوة الطقس، ما بين حرارة مرتفعة وشمس ساطعة يخيل للمرء أنها متعامدة فوق رأسه فقط، وبرد شديد يجعل خروج اليد من القفازات مغامرة طائشة. ولذلك كانت الخطة المرسومة لمجموعتنا، وكل المجموعات تقريبا هي البدء بمرحلة الصعود إلى الجبل ليلا، من منتصف الليل، ومشاهدة شروق الشمس بالأعلى، والنزول قبل أن يشتد وهج الشمس، ثم تأتي مرحلة زيارة دير سانت كاترين بعد النزول. كانت التعليمات مشددة بترك كل شيء في الأتوبيس، وعدم حمل أي حقائب، يكتفي بحقيبة صغيرة بها ماء وطعام سريع، وبطانية، وارتداء مزيدا من الجوارب والقفازات، وكذلك بأن يكون لدى كل شخص كشاف سابق الشحن.

عند منتصف الليل،..

كنا في خط البداية، أمام نقطة تفتيش، يتأكد فيها المسئولون من شخصياتنا، ووجود مرشد معنا، والمرشد هنا، لابد أن يكون من أهل سيناء، وسانت كاترين بالتحديد، ولذلك هناك لافتة باللغة العربية ولغات أخرى أجنبية تحذر من القيام برحلة الصعود من غير مرشد من البدو.. وكان مرشدنا من قبائل الجبالية، ومن غيرهم يحفظ الجبل؟! برودة الجو الشديدة جعلتنا نغطي وجوهنا بالكوفيات الصوفية والأقنعة، ولم يعد هناك مجال لرؤية أو لمعرفة من يسير إلى جانبك. الأنظار مركزة على الأرض، نتتبع نقاط الضوء، ونتفادى التعثر على الطريق الممتد نحو الجبل..تسير المجموعة في الطريق الصخري أو “المدق”، واحدا خلف الآخر. اتفقنا على نداء نتجمع فورا عند سماعه لنتأكد أننا في نفس المجموعة وفي نفس الاتجاه..امتد المدق لما يزيد عن 7 كيلومترات، ونحن نجاهد البرد الشديد، والظلام الدامس، ووعورة الطريق..نتجه نحو جبل موسى، أشهر جبال سيناء، ومن أعلاه سنشهد شروق الشمس على جبل سانت كاترين المجاور له، ودير سانت كاترين، الذي سنزوره بعدما ننتهي من رحلة الصعود نحو القمة…

 

الصعود نحو الشمس !
تجمعنا عند سفح الجبل. يكرر المرشد تحذيراته من أن يسبقه أحد، أو من الركض، وينصح بتتبع ضوء كشاف من يسبقنا، ويحذر من التلكؤ عند الشعور بالتعب، فهناك منحنيات سنتوقف فيها معا لالتقاط الأنفاس، قبل مواصلة الرحلة باتجاه “السلالم”، ثم جاء التحذير الأخطر”إياكم والجِمال”..

بدأنا الصعود، يحمل كل منا بطانية وكشاف ضوء صغير، وزجاجة مياه..كلما صعدنا تشتد البرودة، ويزدد الجبل وعورة، وتختفي الأجساد كما اختفت الوجوه خلف الأقنعة. صوت الدليل وحده يطمئنا بأننا لم نضل الطريق. وبين الحين والآخر يأتينا من بعيد صوت صراخ يحذرنا قائلا: جمااااال! وعلى الفور ندخل في أي شق جانبي، لنتفادى الدهس تحت أقدام الجمل النازل أو الصاعد يحمل سائحا أو أنبوبة غاز..يحدد الدليل فترات الراحة، فتارة يجعلها بعد ساعة، وتارة أخرى بعد نصف ساعة وهكذا، لا يقبل أن نخالف الخطة، فأمامنا وقت محدود علينا فيه الصعود قبل أن تشرق الشمس. عندما يهدنا التعب، يدرك ذلك المرشد فنتوقف في استراحة. واستراحة الجبل، عبارة عن ثنية منبسطة قليلا بها عدد من البدو، يتجمعون حول نار مشتعلة بقطع من الخشب، ما إن نراها حتى نسارع للجلوس قريبا منها، نتلمس بعض دفء طال اشتياقنا إليه، نشتري منهم كوبا من الشاي، ونشعر وكأننا نتنعم في الجنة.. ولكن علينا ترك النار والدفء، ونواصل السير لأربع ساعات، كل دقيقة منها، بمثابة دهر لساكني المدن المزدحمة بجوها الحار، وأنفاسها المتلاحقة..
نواصل الصعود، متتبعين قدم من يسبقنا، فلا مكان يكفي لتشابك الأيدي، وتنعدم الرؤية تماما، الضوء الوحيد يأتي من ملايين النجوم التي تطل قريبة منا. يعجز البعض عن مواصلة الصعود، فيستبقيهم المرشد في واحدة من الاستراحات رفقة مجموعة من البدو، ريثما نعود. تجمدت الموبايلات مثل أطرافنا، وفقدنا تماما الاتصال ببعضنا وبالعالم الخارجي..تكثر الشكوى من المجموعة، ويطمئنا المرشد بأننا اقتربنا من “السلالم” التي تؤدي إلى القمة حيث سنشهد شروق الشمس..فتدب فينا روح الأمل ونواصل السير على أمل الوصول إلى “السلالم”..

“السلالم” الكابوس المدهش!
من المؤكد، عند رؤية السلالم، أن كل فرد ممن تبقى معنا، صرخ معترضا على اطلاق كلمة “سلالم”على هذا الشيء الإفعواني الممتد بطريقة رأسية صعودا نحو السماء. لم تكن السلالم، إلا مجموعة من الصخور المتوالية، بصورة غير منتظمة، وراء بعضها كما السلالم، وهكذا أصبح اسمها سلما، فكل صخرة تسلمك إلى التي تليها وهكذا حتى تتجاوز العدد 300 درجة ولا ينتهي العد..بدأنا الجزء الأصعب من الصعود. كل صخرة نخطوها تقودنا إلى الأعلى، وإلى جزء أكثر إظلاما من الليل. علينا الآن أن نقاوم البرد الشديد، وأن نوازن الجسد كي لا نختل ونسقط من على ارتفاع أكثر من 2000مترا. في الصعود، يصبح موضع قدم من أمامك، هو موضع رأس من خلفه. لا مجال للنظر إلى الخلف أبدا، فهناك تقبع هوة من الظلام، تقفز فيها مئات من أشباح الأفكار..يتزايد عدد اليائسين، وعدد المصابين بالاختناق أو رهاب الصعود رأسا، أو من تجمدت أطرافهم، فيضطر المرشد، أو أحد من المتطوعين بمساعدته في النزول إلى أقرب استراحة. في كل حركة في الصعود، كنتُ ومن معي نسأل عن كيفية النزول من هذا الكابوس لو نجحنا في الصعود، وعن جدوى مطاردة الشمس، ولماذا لم ننتظر شروقها بالأسفل مثل ملايين البشر، ولكن أصوات من خاضوا التجربة من قبل كانت كافية لنواصل رحلتنا..

ميلاد شمس جديدة..

أواصل الصعود مع المجموعة، أفكر في ذاك الراهب الذي نحت بيديه هذه الصخور، ليتكئ عليها بقدميه ويديه، ليصعد إلى خلوته بالأعلى، بعيدا عن البشر، وقريبا من السماء، حيث يشاهد العالم مطويا تحت جناح رب الكون والملكوت، كم كان إيمان هذا الراهب عظيما! أعظم من حلكة الوجود من حوله.
مثل أفراد من النمل، كنا نبدو في هذا الكون الفسيح، ونحن نزحف نحو القمة، كأننا نهرب من الأرض، إلى كوكب آخر..الشباب يملؤهم الحماس، ويساعدون المرشد في اسعاف من يصابون بالتواء أو خدش، ويطمئنون الخائفين. نصعد أكثر، ويعترض الجسد أكثر وأكثر، ولكن بعد قليل يتواطأ هو الآخر، ممتلئا بالحماس لرؤية أشعة الشمس الطازجة قبل أن يراها أحد في العالم. جسد الإنسان هذا المارد الذي يخفي ما يقدر عليه، لا تتجلى قواه إلا وقت الاختبار.. ولا أقوى من اختبارات الطبيعة الأم من برد يجمد الأطراف والأنفاس، وهواء يكاد يطيح به من أعلى الارتفاعات..كل ذلك يتلاشى فجأة، ما إن يسمع المرشد وهو يقول : وصلنا..
على القمة، تهالك الجميع على الأرض، كل فرد لا يبين منه غير عينان، تقاومان الصقيع، والتجمد، والنوم الذي بدأ يفرض سلطانه متواطئا مع الثلج.. القمة مزدحمة ببشر لا تبدو وجوههم، ولكن نسمع لغات متعددة، تخبر عن أناس أتوا من بلدان بعيدة لمشاهدة شمس سانت كاترين الطازجة.. ننظر في السماء، نترقب ميلاد يوم جديد، نبحث عن اجابة السؤال الذي كنا نسأله لأنفسنا ونحن صغار: أين تذهب الشمس؟ ومن أين تأتي؟ يسود الصمت الجميع بردا ورهبة. وهناك في مكان ما تبدأ عملية المخاض، تنسل الأشعة على استحياء، تتمدد رويدا رويدا، شعاعا تلو شعاع، ويتكرر الأمر، وبالتدريج، تظهر ملامح قرص الشمس، يفلق حاجب الظلام معلنا عن ميلاد شمس جديدة..ومن حولنا ظهرت قمم الجبال تبرق، وكأنها تحتفي بالشمس، ومن أسفلنا لا نرى إلا نقاطا تائهة تبحث لها عن شمس أخرى..بينما نحن ننظر لشمسنا الجديدة، نرفع أيدينا بعلامة النصر، ونبدأ رحلة النزول متجهين نحو دير سيدتنا السكندرية كاترين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
%d مدونون معجبون بهذه: