ذكريات حرب يونيو ١٩٦٧..”اطمئنوا وطمنونا عنكم “الرسالة الشهير عبر برنامج “ياعرب”صوت العرب
عندما اندلعت الحرب في يونيو ١٩٦٧ كانت الأسر تتجمع مع بعضها البعض، وخاصة من يسكنون في الأطراف، وإن كان هذا التصرف خطيرا.. فعندما يزال المنزل قصفا سواء ارضي أو طيران قطعا ستكون الخسائر في الأرواح كبيرة.. ولكن كان لسان حال أهلنا في سيناء أن الموت مع الجماعة رحمة..
ولأن بيتنا في وسط المدينة؛ فقد تجمع أخوتي وزوجاتهم والجيران في بيتنا، واختاروا البايكة أو غرفة الخزين بعد أن تم تأهيلها للإقامة، ونقل ما فيها، وذلك نظرا لأنها تقع في الجهة القبلية من المنزل، وبعيدة عن الشارع الجانبي الذي يطل عليه البيت، والذي هو احد روافد الشارع الرئيسي، وبيتنا على مرمى حجر منه، فلو أصيبت الغرف المتاخمة للشارع ربما تنفذ الاصابة الينا.. أما البايكة فيفصلها عن الشارع الرئيسي منزل ملكنا، كانت تقطن فيه أسرة مصطفى الصالحي، وهو فلسطيني من مهجري ١٩٤٨ ثم منزل يقطنه خليل الحرامي – وهذا اسمه وليس لقب – ثم محلات على الشلرع الرئيسي ٢٣ يوليو.. واجتمع الجيران أيضا في بيتنا، ولا اعرف كيف استطاعت هذه الغرفة أن تتحمل اكثر من٣٠ نفس.. بل زاد علينا حوالي خمس أفراد من القوات المسلحة من زملاء اخوتي في العمل في اليوم الثالث للحرب، فتم تسكينهم في احد الغرف البحرية لحين استخراج بطاقات مدنية لهم، وتغيير ملابسهم العسكرية، وكان أسرع لبس هو الجلابية، والمهنة في البطاقة تاجر خضار حتى يتم إيجاد وسيلة لوصولهم إلى شاطئ القناة..
ومما أتذكره جيدا؛ أن أمي قد وضعت تحويشة العمر، وهي بضعة جنيهات وغوايشها الذهبية في كيس مخدة طويل، وطبقته على هيئة حزام، وأخذتني في احد الغرف وربطت الحزام على وسطي.. فأصبحت أنا حامل الأمانة.. وعندما سألتها لماذا؟.. قالت إنها تخشى أن يهجموا اليهود على البيت فيأخذوا منه ماخف حمله وغلى ثمنه.. ولا اعرف لماذا اختارتني أنا؛ فلي أخت تكبرني بثلاث أعوام.. رحمها الله.. وإذا كانت تخشى أن ينالها مكروه، فهذه هي الأخت الوحيدة الشقيقة أو احد أخوتي الأكبر منها، ولكنها اختصتني بها، وكأنها تقول هذه حصتك من الحياة، فان مت فقد أمنت لك مستقبلك، وأنا مازلت ابن التسع سنوات.. وفي الغرفة ذاتها وتحت القصف الذي كنت أرى نيرانه ليلا تكاد تحرق أغصان شجرة الزيتون التي تتوسط قاع الدار، واسمع صوت الرصاص والقذائف نهارا وارى ألسنة الدخان.. كنت أنام في حضنها فأستشعر إنني الملك سواء خوفا علي أو على ما أحمله على خاصرتي.. وظل هذا الحزام لأيام، إلى أن هدأت أصوات المدافع، وبدأت تضع الحرب أوزارها، واستردت وهيبة “وديعتها” مني مرة أخرى، والغريب انه لم يلحظ احد أنني احمل أسرار الملك ومفاتيح الخزنة..
سافر سيد وسعيد مبروك ومن معهم من أصدقاء أخوتي واخواي حسن واحمد، فلا يمكن أن يبقوا؛ فقد يأتي يوم وينكشف أمرهم ويتم اعتقالهم، ووجدوا طريقهم تحملهم الإبل والدواب تارة، وتحملهم أقدامهم تارة أخرى، وبقى أخي إبراهيم وكان في سلاح الإشارة؛ لليوم التالي لتدبير بعض أمورنا فهو الأخ الأكبر من أمي، ولكن يشاء القدر أن يخرج ولا يعود…نعم فقدناه وجن جنون أمي.. أمعقول أن ينجوا من الحرب ونفقده بعد وقف المعارك.. وجاءنا خبر انه وقع في الأسر؛ فلم يجف دمعها لا ليل ولا نهار، وزوجته ابنة عمي كانت تعيش معنا في نفس البيت وتمر الأيام ثقالا لاحس ولا خبر.. إلى أن أرسل لنا رسالة طمأنة انه عاد إلى القاهرة عبر رسائل الراديو التي كانت مخصصة لهذا الغرض في أكثر من برنامج، وكان أهمها برنامح الشعب في سيناء من صوت العرب، والذي كان يقدمه ابن سيناء ا.حلمي البلك، الذي أصبح فيما بعد رئيسا للإذاعة.. تذكرت تلك الحكاية وأنا اشتري حزام جديد ليناسب حذاء جميل أهداه ابني لي بعد عودته من السفر.