فى ذكرى وفاة أديب نوبل: ليالى «محفوظ».. الحـى فـى ضمـائـرنا
اليوم تحل الذكرى الـ16 لرحيل أديب مصر العالمى نجيب محفوظ عن عالمنا، وقد غادرنا فى الثلاثين من أغسطس عام 2006، بعد أن ملأ الدنيا وشغل الناس كما قالوا قديمًا عن أشعر من نطق بالعربية..المتنبى، وهذا العام تصحبنا الأديبة المتميزة والناقدة البارزة د.أمانى فؤاد فى رحلة البحث عن علامات محفوظ المذهلة، وتهدينا هذا المقال القيم الذى خصت به «الأخبار»، وفيه تتوغل فى عالم نجيب محفوظ عبر بوابة غير مطروقة كثيرًا فى عالمه هى نصه الفريد «ليالى من ألف ليلة».
بكل الفخر والمحبة توقظ مصر من ذاكرتها العامرة صفحات ناصعة من عطاءات أديبها الكبير (نجيب محفوظ)، القامة الإبداعية الفكرية، ذات الوعى الإنسانى الرفيع، الروائى الذى وضع الأدب المصرى والعربى فى مصاف الآداب العالمية.
وبهذه المناسبة ــ ولافتتان خاص وعيته منذ قرأت منتج أديب مصر الكبير، وشاهدت بعض حواراته ــ سأعرض لبعض الملامح الفنية والنقدية التى تركز على محاور متجددة فى منظومة إبداعات محفوظ، وكيفية تعامله سواء مع الموروث السردى الشعبى العجائبي، أو توظيفه لتقنيات فن السينما فى الكتابة، ودراسته لفن السيناريو.
1ــ فى عام 1977 م يكتب نجيب محفوظ رائعته «الحرافيش» بعد توالى نصوصه الروائية التى عَبَّرت عن مراحل فنية جدد بها صاحب نوبل بوعى وثاب مشروعه الكتابي، بداية من المرحلة التاريخية، والواقعية، ثم التعبيرية التجريبية.
والرمزية وانتهاء بومضات أحلامه التى تشبه الشفرات الصوفية، ويتساءل الجميع ماذا بعد الحرافيش وأولاد حارتنا؟ وأظنه قد تساءل مع ذاته دومًا ماذا بعد..؟ فإذا به عام 1979 م ينشر «ليالى ألف ليلة» ليخلق تناصه الإبداعى الخاص مع كتاب الليالي، فيضفر حالة من الاشتباك الجدلى بين الموروث السردى والواقع، النص التراثى الشعبى الذى وُظف فى العديد من الأعمال الروائية العربية والعالمية، والأعمال السينمائية، والموسيقية السينفونية، وفن الباليه، والرسم، والنحت، العمل الذى أذكى المخيلة الإنسانية.
وأضاف لإبداعاتها حضاريًا، ومعكم أتساءل بدوري، ما الغواية التى قدمها النص الأم ليستفز طاقات محفوظ فيعيد بعث وإعادة صياغة شخصيات من تاريخ وعوالم ألف ليلة وليلة، حيث يتجادل فيها ويلتبس الفلسفى بالعجائبي، والواقعى بالميتافيزيقي، والمادى بالتصوفى والمتخيل، هل لجأ محفوظ لهذه العوالم التراثية العجائبية.
ولمجموع شخصيات القصص فى ألف ليلة وليلة مجتمعة، وهى لم تجتمع فى قصة واحدة فى النص الأصلي، ثم أعاد توظيفها معًا ليرمز لصراعات البشر الداخلية، ويجسدها فى هذه الكائنات، وكأنها رموز للقوى البشرية الداخلية فيجعلها قدراتها المادية المجسدة.
والتى تتضمن قوى خرافية أكبر من قدرات الإنسان فيُكسبها التأثير المتضخم، كأنه يمسرح هذا الصراع الداخلى بذوات البشر وبشخصنتهم، ويهبهم قوى خارقة، ويجعل بين هذه الشخصيات والكائنات حوارًا يدور بينهم وبين البشر، حيث يجسد هذا الصراع بصورة أعلى إيقاعًا وتأثيرًا.
وهب محفوظ لنفسه حرية انتقاء الشخصيات من كل قصص وحكايات ألف ليلة وليلة مجتمعة، ولم يلتزم بشخوص كل قصة على حدة، ولذا رأينا معروف الإسكافي، وحسن البصري، والسندباد، وعلى البرى والبحري، والعديد من الشخصيات، بما تدلل عليه كل شخصية من هذه الشخصيات من طبيعة وقيم، فى كيان سردى جديد (مكانى وزماني).
وهم لم يجتمعوا فيه فى أصل قصص الليالي، هذا فضلًا عن أجناس من الجن والملائكة لم يكن وجودهم على هذا النسق فى قصص الكتاب، فلقد أطلق خياله عبر آلية التحوير للتصرف فى مجريات القصص الأصلية، فى رواية ليالى ألف ليلة لن يجد القارئ سردية تقليدية تعتمد على البداية، فذروة الصراع ثم نهاية العمل، النص هنا أقرب إلى مشاهد وقصص قصيرة لأفراد تنتهى أدوارها، ثم ما تلبث أن تبدأ أخرى، صراعات ذات طبيعة مختلفة مع قوى الجن الأكثر قدرة وإمكانات، تسيطر على الإنسان ثم ما تلبث تتحكم به، هل أراد نجيب محفوظ أن يقول إن كل إنسان محاط بمجموعة من الظروف التى تدفعه دفعًا ليتخذ مواقف ويعيش صراعات لا يتخيرها بإرادته؟
ولعلنا لم نزل حتى اليوم نتساءل عن السبب وراء كثافة تحويل أدب نجيب محفوظ إلى السينما؟
ففى إحدى الدراسات التى أجريتها عن السمات السينمائية فى أدب نجيب محفوظ وجدت أن هناك أسبابًا متعددة، أسبابا خاصة بالنص الأدبى ذاته، آليات تشكيله الفنى، وأسبابا خارجية استفاض فى بحثها بعض الدارسين، فهناك أسباب وظيفية وعلاقات اجتماعية توطدت بين محفوظ وكثير من السينمائيين، كما أن ذيوع وشهرة اسم نجيب محفوظ وعالميته كروائى من الدرجة الرفيعة، ووصوله لقمة الرواية.
كلها عوامل ساهمت فى إقبال المشتغلين بالسينما على هذه الأعمال الثرية، لكننى هنا سأركز على مقومات النص الأدبى وسماته الداخلية التى أتاحت خامة ثرية للمعالجات السينمائية، منذ عام 1945م أقنع «صلاح أبو سيف» «نجيب محفوظ» بكتابة السيناريو لفيلمى: »مغامرات عنتر وعبلة» و»المنتقم».
وأمدَّه ببعض المراجع والكتب الأجنبية لدراستها، وقبل »محفوظ» التجربة لكون كتابة السيناريو امتدادًا لمتعة الحكى التى هى حرفته وموهبته، وكونه مصدرًا للدخل المادى بجانب عمله،
ولذا توالت كتابة محفوظ للسيناريو أو المشاركة مع آخرين حتى وصلت إلى أكثر من ستين نصًا كما يذكر المخرج «توفيق صالح» حتى عام 1988م.. بدأ وعى نجيب محفوظ بالسينما وتقنيات الكتابة لها ـ نسبيًا ـ منذ بواكير مراحله الفنية والأدبية، بل يمتد هذا الوعى والتأثير إلى أبعد من هذا.
إلى طفولته منذ سن الخامسة، وعشقه لمشاهد الأفلام السينمائية كما يحكى فى حواراته، لقد أوجد هذا الحضور السينمائى منذ تفتح الوعى الفكرى والفنى والوجدانى، وممارسة إبداع كتابة السيناريو ودراسته، ما يمكن أن أسميه امتلاك نجيب محفوظ للخيال البصرى، الملكة أو القدرة التى عمل على تنميتها وإثرائها.
وهى تساعد صاحبها على التعرف على العالم وصياغته من خلال اعتماده على المشهدية، تُهَيكِل الخيال وتقيم له بناءات متكاملة عند تحوله إلى كلمات مقروءة، مشهد بكل عناصره المرئية والمسموعة والمحسوسة، تقدم الصورة أو المشهد مجسدًا متحركًا متكئًا على الحواس البشرية المتكاملة فى تلقى العالم.
واتخاذ موقع منه وفيه، وهنا بإمكاننا أن نستحضر قول صلاح أبو سيف عن أدب نجيب محفوظ حين قال: «إن فى أدبه تعبيرًا قويًا بالصور، وبناءً دراميًا، وإن هذا هو الأساس فى السيناريو »البناء والتعبير بالصور»، عندما قمت بتحليل بعض المشاهد الرئيسية فى نص ملحمة الحرافيش التى صدرت عام 1977.
وهى نموذج لنصوص محفوظ فى مراحله الفنية المتأخرة التى كان يمارس فيها أنواعًا من التجريب والتجوال بين المدارس الفنية والتوفيق فيما بينها، وهى رواية مقسمة إلى عدد من الحكايات التى تتوالى؛ لتصور عائلة «عاشور الناجى» الفتوة فى حالته شبه الكاملة، الرجل القوى الذى يؤمن بالعدل والرحمة.
ويستعين على تحقيقهما بالقوة، وينتصر للحرافيش البسطاء المطحونين فى الحارة المصرية تحت طبقة التجار ما يمثلونه من رأسمالية متوحشة، تستغل الجميع إن لم تجد من يردعها بالقوة، وللرواية أبعاد تأويلية أخرى فهى نص ملحمى بجدارة يحكى تاريخ الإنسان وصراعه مع الحياة فى التاريخ البشرى لتثبيت وغربلة مجموعة من القيم والأفكار.
كما أنها مجال للصراع الإنسانى المتعددة وجوهه، بصوره وصيغه المتباينة، فالنص يصور واقعًا ملحميًا ما بين الواقع والتخيّل، كما أنه يقدم نماذج تتكرر قصصها التراجيدية فى الزمن بدوراته المتعاقبة، ويتعامل مع قيمتى: العدل والقوة بفلسفة فطرية خالصة، يرسلها محفوظ من خلال شخوص نصوصه وينتصر للمعذبين فى الأرض والمهمشين.
تُرسم الشخصيات فى الحرافيش ليس بحسبانها شخوصًا واقعية حقيقية أو تاريخية، وهى أيضًا ليست شخوصًا ورقية من نتاج خيال الأديب المجرد، بل تبدو خليطًا بين كل هذا، فـ»عاشور الناجى» ليس فردًا بل كائن. هو كل كائن بشرى تساءل واحتار واستنجد بقوى غيبية متعالية.
فلقد تميَّز إبداع محفوظ بأنه حضارى وكونى من حيث انفتاحه على أسئلة الإنسان العميقة والمتكررة عبر تاريخه الممتد فى الزمن، وتميزت ملحمة الحرافيش بلعبها على الواقع الحياتى لشخوص الحارة المصرية فى لحظة الكتابة، وضفر هذا بخلق نصى يُعد حوارية مع الزمن بوحداته ودوراته المتتالية.
نص يستنطق الكيان الإنسانى بأسئلته الأزلية التى تمتد إلى أول الخلق، جَسَّد نجيب محفوظ فى الحرافيش المعانى المجردة والروحانية ووهبها كيانًا ماديًا متعينًا، خلَّق لها أمكنة حسية لها أبعادها، وهى وإن تكن افتراضية، وتحمل أجواؤها ملحمية وأسطورية الحكى، إلا أنها تمتلك مرجعية وجودها فى الواقع وفى حياة الناس اليومية، من خلال دور العبادة على مختلف أنواعها ومبانيها، تبدو «التكية» و«المئذنة بالغة الارتفاع» والتى تشبه المسلة الفرعونية.
وكأنهما إصبعا سبابة موجهان مباشرة إلى معانٍ روحانية وأسطورية شغلت البشر كثيرًا ولا زالت، علاقة البشر بالغيبيات وتصوراتهم عن الحيوات الأخرى مثل عوالم الجن وما يأتونه من خوارق، وعى محفوظ أن وقع العالم على حواسنا هو المصدر المباشر لمعرفتنا وهو ما ينتج أفكارًا وصورًا لا نهائية.
ففى التعرف الجمالى لا تطابق هذه الصور الموجودات الموضوعية بتفاصيلها الدقيقة الواقعية، لكنها أيضًا ليست بعيدة عنها، وتنهض صحتها بقدر احتوائها على عناصر جوهرية من المدرك، إن الخيال البصرى الذى امتلكه نجيب محفوظ واستحوذ عليه فى قبضة ذهنه، وحمّله رقصات قلمه مع اللغة.
استطاع من خلاله أن يجسد رؤاه، وإن كانت بالغة التجريد والتعقيد، لكن هذا أحد أهم السمات التى تُميّز النص الأدبى المحفوظى، كما أن هيكلة المشهد السردى فى سياق طبيعى ومتكامل مع العالم بكل موجوداته من عناصر زمانية ومكانية وطبيعية ونفسية.
وخلقه لما نسميه وحدة الوجود وتناغم عناصره وهى من سمات نصه البارز، إن هذه القدرة على الخيال البصرى لا يختص بها أدب «نجيب محفوظ» فقط، بل هى قدرات يجب أن تتوافر لدى كل المبدعين، ولكل منهم حظه وقدرته على تشكيلها، كل بحسب ملكاته وبنسب مئوية متباينة حسب مؤثرات ثقافته.