أخبارمقالات وآراء

خمسة فرط

كان العم عوض ذلك الرجل قصير القامة حلو الحديث الحكاء هو صاحب الدكان الوحيد الذي يظل ساهرا حتى ساعات الفجر في ليل العريش الدامس في زمن الاحتلال الاسرائيلي وكان على مرمى حجر من منزلنا على الشارع العام في سوق المحاسنة في الشارع الرئيسي وهو السوق الشهير والذي تم تسميته على اسم عائلتنا نظرا لأن المؤسسين الأوائل هم جدي ووالدي وبني عمومتهم وكان يحلو لنا الشراء ليلا من عم عوض ذلك الرجل المكافح والذي كان قبل الاحتلال قد سبق زمانه فقد أنشأ محلا متنقلا على عربة كارو تماما كما فعل عادل امام في فيلم كراكون في الشارع..وقد كان يجلس في هذا الهودج ذات الاربع أضلاع يقود راحلته الني تجر هذا الدكان ويصدح بصوته”معانا كبايات الشاي..امشاط.. فلايات.. “واستطاع أن يستبدل هذا النشاط المتنقل إلى محل ثابت واذا اسعدك الحظ ومررت عليه ليلا لن يخذلك ابدا فيما تطلب… مشروبات باردة لامانع.. ساخنة لامانع ..سندوتشات موجود…سجاير.. معلبات ..مستلزمات مدرسية..خردوات اسرية..والأهم الحديث الذي يصاحب عملية الشراء فالليل طويل والزبائن قليلون فلابد من إدارة حوار حتى لايشعر بالوحدة خاصة في ليالي الشتاء..فقد كان الشتاء في تلك الأيام قارصا وطويلا …وذات ليلة خرجت وانا اذاكر الثانوية العامة بعد منتصف الليل في ليلة شتوية بامتياز حيث هطلت الأمطار فاحدثت تغيرا جغرافيا على الأرض فهناك شوارع لايمكن أن تجتازها الا لو كنت تملك مركبا “فالغدران” وهي جمع غدير في قاموسنا تملأ الشوارع والتي لم يكن مرصوفا منها الا شارعين فقط هما ٢٣ يوليو و٢٦يوليو الموازي له تقريبا..وهي أيضا تمتلئ فهي بدون اي صرف…وقد ارتديت معطفي الفرو والمكسو بطبقة خارجية من  الجلد الناعم وقد كان زيا شعبيا لكل أبناء جيلي بلونه الأسود حيث تنزلق المياة من على سطحه فلاتتأثر بها مهما كانت غزيرة…ولم يخرجني في هذا البرد القارص والمطر الا المزاج…حيث كنت مدخنا وقتها وقد نفذ رصيدي فالاحساس الداخلي انني لن استطيع المذاكرة وربما النوم أيضا.. فكان لابد من الخوض في مياه المطر  للوصول إلى عم عوض..وانتظرت أن هدأت حدة المطر  وانطلقت إلى وجهتي لاطلب منه خمس سجاير كانوا يطلقون عليهم على سبيل الدعابة “خمسة فرط”…وكان هو يتفهم حال الطلبة ويضعهم في علبة ليعطيك احساس انك تملك علبة كاملة… فلاتضعها في جيبك فقد تبتل من المطر وبالطبع كان لابد من الحديث عن المذاكرة وخاصة انه لايوجد في الشارع بشر والعامة يقولون”ولانفاخ النار”ولا اعرف سبب هذه التسمية عندما يريدون أن يعطوا احساسا بالفراغ…ولكن فجأة تتوقف سيارة الشرطة الإسرائيلية أمام رصيف المحل الذي كان يعلو درجتين عن رصيف المشاة ويضع كرسي أمام الحاجز الخشبي الذي يقف خلفه ليتيح الفرصة لمن يطلب شيئا يحتاج إلى تجهيز فليجلس قليلا.. ونزل ضابط الشرطة”حاييم” المعروف في بلدتنا حيث كان هو قائد شرطة العريش وسألني “لماذا انت هنا؟” بلهجته العربية المكسرة فاخرجت علبة السجائر مجيبا لاشتري سجائر …وتلاها ببعض الأسئلة عن “ايش بتشتغل” لا انا طالب …طيب فين هويتك اي بطاقتك”…والحمدلله انها كانت في جيب المعطف والا كانت ليلة سوداء…وقد جربت من قبل معنى الليلة السوداء..واتجه إلى عم عوض” وانت ليش فاتح لهادا الوقت ومافي بشر في الشارع”فأجاب علشان الناس السهرانة وانا عادة أغلق المحل معظم النهار …طيب يلا كفاية اليوم وروح على بيتك…وانصرف ..وتنفسنا الصعداء وهممنا بالرحيل قبل أن يعود من جولته حيث كان معروفا بجبروته وهو ماتخفيه ملامح وجهه الباردة …واشعلت سيجارتي فور دخولي البيت ولكني لم اكمل مذاكرة وانتابني القلق من وقفة هذا الشرير وحاولت مغالبة القلق لأخلد إلى النوم لأنسى هذا الوجه العكر …وفي اليوم التالي ذهبت إلى عم عوض ولكن بعد العشاء لأساله هل تكرر هذا الامر معه من قبل…فقال لي انه يسهر يوميا صيفا وشتاء وهم يعرفونه جيدا ولا احد يعترض وهذه اول مرة تحدث…فانتابني مزيد من القلق وقلت ربنا يستر .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى