الإنجيل: قصة أقدم نسخة كاملة عُثر عليها بمصر
في مثل هذا الوقت من عام 1859 عثر الباحث اللاهوتي الألماني كونستانتين فون تيشندورف (1815-1874) على عدة مئات من الأوراق، التي تشكل غالبية المخطوطة السينائية (كودكس سيناتيكوس) في دير سانت كاترين عند سفح جبل سيناء في مصر (ومن هنا جاء اسم سيناء)، والتي تُعد أقدم مخطوطة كاملة للإنجيل (العهد الجديد).
والدير نفسه لديه أكبر مكتبة من المخطوطات خارج الفاتيكان، حوالي 33 ألف مخطوطة، ومجموعة من الأيقونات التي لا تُضاهى.
ويعد الدير موقعا من مواقع التراث العالمي، وقد اعتبر بمثابة السفينة التي حفظت الكنوز الروحية بأمان خلال القرون المضطربة. وفي عيون العديد من الناس فإن أعظم الكنوز هي المخطوطة السينائية التي كُتبت في عهد الإمبراطور قسطنطين، أول إمبراطور مسيحي.
ويُعتقد أن المخطوطة ظلت باقية رغم كل هذه السنوات بفضل هواء الصحراء الذي كان مثاليا للحفاظ عليها،
من هو تشيندروف؟
وُلد كونستانتين فون تيشندورف، واسمه الكامل فريدريش كونستانتين فون تيشندورف في 18 يناير /كانون الثاني من عام1815 في لينغنفيلد في ساكسونيا، وتوفي في 7 ديسمبر/كانون الأول من عام 1874، ليبزيغ) في لايبزيغ، وهو عالم لاهوتي ألماني يرجع له الفضل في العثور على المخطوطة السينائية.
منذ أن كان طالبا في جامعة لايبزيغ، بدأ تيشندورف عمله في دراسة العهد الجديد، وهي مهمة كان عليه أن يتابعها طيلة حياته. في عام 1844 ذهب إلى الشرق الأوسط. وأثناء العمل في مكتبة دير سانت كاترين في شبه جزيرة سيناء، اكتشف، من بين بعض الرقائق القديمة، أوراقا من بين أقدم المخطوطات الكتابية التي شاهدها على الإطلاق.
وفي عام 1853 قام برحلة ثانية إلى سيناء على أمل العثور على أوراق أخرى، ولكنه فشل. وقد قام برحلة ثالثة بدعم من الحكومة الروسية في عام 1859. وعندما كان على وشك اليأس، عثر على الأوراق التي كان يبحث عنها وغيرها. وقد عرض تيشندورف نتائج عمله.
تقول دائرة المعارف البريطانية إن المخطوطة السينائية تحتوي على نص الكتاب المقدس باللغة اليونانية، وتعود إلى القرن الرابع الميلادي، ويٌعتقد أنها كُتبت في الإسكندرية بمصر.
وكان تيشندورف قد عثر في عام 1844 على 43 ورقة فقط من هذه المخطوطة، فأهداها للدير الذي سمح له بأن ينسخ نسخة لنسفه. وقد عاد تشنيندروف الي وطنه محملا بكنزه الثمين يحذوه الحلم الكبير أن يعود مرة أخري إلي دير سانت كاترين لمعاودة البحث عن أوراق أخرى، وهذه النسخة التي عاد بها هي المحفوظة الآن في جامعة لايبزيغ.
وفي أوائل فبراير/شباط من عام 1859 عثر تيشندورف (1815-1874) في الدير على عدة مئات من الأوراق الإضافية، التي تشكل غالبية المخطوطة الحالية.
وقد أقنع تيشندورف رهبان الدير بنسخ المخطوطة الثمينة وتقديمها لقيصر روسيا ألكسندر الثاني، الذي مول رحلة الباحث الألماني، مقابل توفير الحماية اللازمة لديرهم.
وقد نشر تيشندورف المخطوطة السينائية في لايبزيغ في ألمانيا، ثم قدمها بعد ذلك لقيصر روسيا.
وبقيت المخطوطة في المكتبة الوطنية الروسية حتى عام 1933، عندما باعتها الحكومة السوفيتية إلى المتحف البريطاني مقابل 100ألف جنيه إسترليني.
وفي وقت لاحق تم اكتشاف أجزاء إضافية من المخطوطة في دير سانت كاترين.
الشكل والمضمون
المخطوطة السينائية مكتوب باللغة اليونانية على الرقائق، وتعتبر أقدم وأكمل النسخ الباقية من العهد الجديد.
وتحتوي المخطوطة على العهد الجديد بأكمله، إلى جانب معظم سيبتواغينت (النسخة اليونانية من العهد القديم). وهي مصنوعة من أوراق نباتية عالية الجودة، وكُتبت المخطوطة بلغة يونانية واضحة وأنيقة مع هوامش وعناوين باستخدام الحبر الأسود الذي ظل محافظا على لونه لأكثر من 1600 سنة، ويعتبر مثالا رائعا لإنتاج الكتب المبكرة.
وتعتبر المخطوطات السينائية فريدة من نوعها بين المخطوطات القديمة لحجمها واكتمالها. وتحتوي على أكثر من 1500 صفحة، قياس كل صفحة 40 سم طول و35 سم عرض، مما يجعلها واحدة من أكبر المخطوطات الباقية من العصور القديمة. وقد تم تقسيم النص إلى أربعة أعمدة في كل صفحة بإجمالي 730 عمودًا في جميع الصفحات.
وقد كتبها الناسخون بخط غير عادي وبأحرف كبيرة وتقسيم متكرر للكلمات مما يعكس التاريخ المبكر للمخطوطة، واستخدامها كنص مشترك للقراءة بصوت عالٍ.
وتحتوي المخطوطة السينائية على بعض الأقسام غير الموجودة في المخطوطات الأخرى حيث أنها تضم كل أو أجزاء من أناجيل متى ويوحنا ولوقا وأعمال الرسل، وتفتقر إلى بعض أجزاء سفر الرؤيا. ويعتقد أن هناك أربعة كتبة ساهموا في النص الأصلي.
وتتضمن المخطوطة أيضًا العديد من الرسوم التوضيحية التي تصور مشاهد من كلا العهدين، بما في ذلك صور يسوع المسيح وتلاميذه. وتعد المخطوطة السينائية مصدرًا لا يقدر بثمن للباحثين الذين يدرسون نصوص الكتاب المقدس.
وبالرغم من أن آلاف الأوراق من المخطوطات القديمة قد احتملت مرور الأزمنة عليها، إلا أن المخطوطة السينائية فاقتها جميعاً، فهي أكثر اكتمالا، فهي تحوي العهد الجديد كله، وحوالي نصف العهد القديم.
وتقول المكتبة البريطانية إن هذه المخطوطة مهمة للغاية لفهم تاريخ العهد الجديد. وهي واحدة من المخطوطات الثلاثة الأوائل الباقية، وهي أقدم نسخة كاملة من العهد الجديد، وتحتوي على بعض الأسفار التي تضعها العديد من الطوائف البروتستانتية المسيحية بين العهد القديم (مثل المكابيين وحكمة يشوع بن سيراخ).
كما تشكل المخطوطة نقطة محورية في تاريخ الكتاب: فهي واحدة من أوائل الكتب الكبيرة المثبتة التي نجت من أواخر العصور القديمة. وهي تتضمن العهد الجديد بأكمله في مجلد واحد، مما يعكس ابتكارا تقنيا كبيرا في ذلك الوقت حيث بدأت الكتب المثبتة بصفحات من الرقائق تزيح الأشكال السابقة من لفات وكتيبات جلود الأبقار.
الإنترنت
كانت المخطوطة السينائية موضوع الكثير من الدراسات والبحوث العلمية. وفي يوليو/تموز من عام 2009، تم وضع 800 صفحة منها على الإنترنت.
وتتوزع أجزاء المخطوطة بين 4 مؤسسات: مكتبة جامعة لايبزيغ في ألمانيا، والمكتبة الوطنية لروسيا في سانت بطرسبرغ، ودير سانت كاترين في سيناء،
ونتيجة لمشروع تعاوني دولي ضم هذه المؤسسات الأربع مع مؤسسات أمريكية، أُعيد توحيد صور جميع الأجزاء الباقية من المخطوطة السينائية في عام 2009 في موقع على شبكة الإنترنت (codexsinaiticus.org). وقد اتفق شركاء المشروع أيضاً على سرد لتاريخ المخطوطة، وهو التاريخ الذي تم نشره في الموقع.
وتمكن زوار الموقع في ذلك الوقت من رؤية صور لأكثر من نصف المخطوطة السينائية.
ويقول خبراء إن هذه المخطوطة تمثل ” نافذة للإطلال على تطور الديانة المسيحية في وقت مبكر”.
وأشار الباحث البريطاني الدكتور سكوت مكيندريك رئيس قسم المخطوطات الغربية في المكتبة البريطانية حينئذ إلى أن هذه المخطوطة توفر العديد من فرص البحث. وقال: “إن المخطوطة السينائية هي أحد أعظم الكنوز المكتوبة في العالم”.
وأضاف قائلا:” إن المخطوطة اليدوية التي يعود عمرها إلى أكثر من 1600 عام توفر نافذة على التطور المبكر للمسيحية ودليل مباشر على كيفية انتقال الكتاب المقدس من جيل الى جيل”.
وبمناسبة نشر المخطوطة على الانترنت، أقامت المكتبة البريطانية معرضا ضم مجموعة من التحف التاريخية والموضوعات المرتبطة الوثيقة
وفي عام 2009 أيضا عثر الباحث نيكولا ساريس، وهو بريطاني من أصل يوناني، بشكل غير متوقع على أوراق من المخطوطة السينائية خلال قيامه بأبحاث في دير سانت كاترين. وكانت أوراق المخطوطة السينائية تلك مخبأة تحت غلاف كتاب يعود تاريخه إلى القرن الثامن عشر.
وفي عام 2019، تمت أرشفة المخطوطة رقميا، وبالتالي أُتيح للجمهور مشاهدة صور رقمية عالية الوضوح لها، كما أتاح ذلك أيضا للباحثين والأفراد المهتمين فحص المخطوطة ودراستها بالتفصيل