أخبارمقالات وآراء

“ما التقطته الأجنحة الشاسعة”

الدكتورة أماني فؤاد

استيقظتُ اليوم في الصباح الباكر على أصوات غريبة، تكتكات تتوالَى تِباعًا دون توقُّف، ‏إيقاع يشبه صوت ماكينة تسجيل واستخراج فواتير الشراء، طاقة ترُجُّني دون عنف، ‏فتحتُ عينَيَّ فإذا بالفِرَاش من حولي وأرضية الغرفة تغمرهما الأوراق الممتدة الطويلة، ‏شرائط مثل الفواتير، أوراق بلا نهاية تنفذ من صدري، وتحيط بي من كل اتجاه، كأنني ‏اشتريت العالَم كلَّه، واقتنيت حتى سُحَبه وطيوره، رماله وأشجاره، ذُهلت؛ ما كل هذه ‏الأوراق أو الفواتير؟

أنا المرأة التي استبدلوا قلْبَها منذ شهرين تقريبًا، قال الأطباء: إن القديم أصابه عطب ‏شامل، وإنني بحاجة لقلب جديد، لم أنشغِلْ سوى بأن تستمر الحياة، حتى لو كانت ‏المحاولات تجريبية، فالموت مجهول غامض وعدمي.‏

لم أفكر في ماهية القلب البديل، أهو بَشري، أم مصنَّع من خلايا جذعية؟ قالوا فقط: إنه ‏أحدث ابتكارات العِلم.‏
لم أزَلْ في المستشفى؛ لأن عارضًا خطيرًا ــ لا يعرف الأطباء له سببًا ــ وقَع، جُرحي لا ‏يلتئم، وصدري يأبَى أن ينغلق، يقولون إن المضخَّة الجديدة تمارِس مهامَّها بشكل ‏طبيعي، تدفَع الدماء، وبعض الأدرنالين، وتوزِّع الدم بكل نواقله العصبية، وهرموناته على ‏كل أجهزة الجسد، وخلال أسابيع سأعاود حياتي الطبيعية، مصْدَر قلقهم الأهم أن تلتئم ‏مسامي وخلاياي. ‏

في الحقيقة، هُم لا يشعرون بأنني معلَّقة في ضوء بعيد، معلَّقة في صمت أبيضَ ‏وحيادٍ، دون أدنى مشاعِرَ، أستمع إلى دقَّات قلبي المصنَّع هذا فقط.‏

انطلق صراخ جهوري من الأجهزة الطبية الموصَّلة بجسدي؛ في الدقيقة التالية امتلأت ‏الغرفة بالأطباء والممرضات، اعترتهم حالة من الدهشة، التي ألجمت أيديهم وعقولهم، ‏ماذا يحدث؟ ‏

اندفعت يدُ إحدى الممرضات تلتقط شريط الورق، الذي ينفذ من جرحي، ويندفع خارجه ‏دون توقُّف، لفلفَتْه؛ لتُفرِغَ الغُرفة من بحر العجائب هذا، لمحتُ الأوراق؛ فوجدتُ صورًا ‏وعلاماتٍ، تأمَّلها أحدُ الأطباء، وحاول قراءتها؛ فلم يتبيَّنْها، قال: علامات مصورة تشبه ‏اللغة الهيروغلوفية.‏

سألني: ماذا حدَث، هل تتألمين؟ من أين جاءت كل هذه الأوراق؟ ومتى؟ كيف أغرقت ‏الغرفة هكذا؟ ماهي تلك اللغة؟ هل تعرفين أصحاب هذه الصور؟ ‏

نظرتُ إليه وإلى الأوراق، ثم قلت: نعم، بعضها لأبي، وصور لأمي قبْل أن ترتدي ‏الحجاب، هذه صورة قبْل وفاتها بأيام، صور أخرى لنساء عرفتهم ورجال، أقارب ‏وأصدقاء، بعضها لكُتَّاب قرأت لهم، هذه الصورة التي تتكرر، لرجُل أحببته ذات يوم، ‏الصور الأخرى لأسئلة شغلتْني في الحياة.‏

قبْل إجراء العملية بأيام تحدَّث معيَ الطبيبُ، ذكَر أن المشاعر والذاكرة تواليف شديدة ‏التعقيد، تحملها النواقل العصبية والغدد الصماء، التي تصدُر من الدماغ والنخاع ‏الشوكي، ينظِّم القلب فقط ضَخَّ الدماء التي تحمل الهرمونات، والمواد الكيماوية، وتلك ‏الإشعارات. كان يطمئنني لعملية الاستبدال، وأن القلب علاقته بالمشاعر والذاكرة ضمن ‏منظومة، وليس منفردًا، لم أكترث بتقسيم الوظائف تلك، وانحصر هَمِّي في آليةٍ تُحييني ‏لسنوات.‏

قالت صديقتي إنها تعرف سبَب العطب المدمِّر الذي أصاب قلبي، نظرتُ إليها مستنكِرة، ‏ترجِّح إنني استنزفتُه بالفوران القابع خلْف صمتي، عَمِلَ طوال سنواتي بأقصى طاقته، ‏فانهارت جدرانه، رجَّتْني: اصرخي للخارج، واجهي مَن يؤذِيَكِ، اصفعي العالَم.‏

لا عليكم من صديقتي، تُبالِغ، منذ يومين انسابت دموعي البربرية الساخنة ـــ كما كانت ‏تصفها ـــ على وجنتيَّ، حين لمحتها تبكي، شابة لا أعرفها، كان الألم على ملامحها ‏واضحًا، عصف بي بكاؤها، سألتُ رفيقتَها هل يمكنني المساعدة، شكرتْني وقالت: “لا، ‏سأنقلها إلى المستشفى في التوِّ”، كنت قد سمعتُها تغالب دموعها لتقول لصديقتها: إنه ‏لا يجيب على اتصالاتها منذ أسبوع مضَى، خِفتُ أن تغادر الحياة، كالفتاة التي انكسر ‏قلبها منذ أيام وماتت.‏

بعد واقعة اجتياح الأوراق تلك، حضَر كبيرُ الأطباء، الحكيم الذي أوَّل الحادثة برفْض ‏قلبي الجديد استلام كل إشعاراتي القديمة، وهو ما يبرِّر هذا الإفراغ الشامل لكل البيانات ‏السابقة والذاكرة، حكَى أنني محظوظة؛ لأنني سأحظى بقلب جديد، (بيور)، غير مثقَلٍ. ‏وأضاف: إن من توفَّروا على المسح والإحصاء الدقيق لكل ما وَرَدَ بشريط الأوراق، ميَّزوا ‏منطقة سوداء واسعة تتكرَّر، يرجِّحون إنها مناطق توتُّر، غضَب، حَيرة. واستنتج الطبيب ‏أنَّ جرحى سيلتئم في الأيام القادمة، بعد عملية الطرد هذه، والإنزال الصاخب. سألته هل ‏تمَّ برمجة القلب الذي استبدلوه ليفعل هذا؟ هَزَّ رأسه نافيًا.‏

كنتُ – في أول ساعات إفاقتي بعد الجراحة – قد رأيتُ أحدًا يحمل قلبَين معًا، ويرتفع، ‏مَرَّ فوق جِسْرٍ رفيع هَشٍّ بين جبَلَين شاهِقَين، في أقل من ثانية انقَضَّ طائر ذو أجنحة ‏شاسعة والتقطهما، هيَّأتُ نفسي وقْتها للبياض، الذي يتحدَّثون عنه، لهَاوية أو نَفَقٍ بلا ‏قرار.‏

في الأيام التالية، بعد واقِعَة الأوراق، كنت أتجوَّل في صحرائي الشاسعة، قتلني الضجر ‏من الصفحات الفارغة، فكنتُ أنثُر بُقَع الحِبر، وأراقبها وهي تفترش جسدي، ملابسي، ‏ستائر الغرفة، والأجهزة المعلَّقة بجواري. ‏

جاءني البروفسير بعد أسابيع؛ يزفُّ لي خبرَ التئام جرحي، قال: كل ما أطلبه منكِ الآن ‏أن تتوخَّي الحذَر، لا انفعالات شديدة، والرِّضا رغم ما فُقد. لم أترُكْه يكمل، وسألته: أين ‏ذهبتم بالقديم؟ راوَغ مِرارًا، وحين لمَس إصراري، قال: لم يَجِدوه، أبلغ أحد الفنيين: إنه ‏شاهد طائرًا ذا جناحَين شاسعَين يلتقطه ويطيرُ بعيدًا، ظلَلتُ أنظر إليه، ثم أومأت له أن ‏يغادِر. صِرتُ نقطة النهاية في سرديةٍ خُطِف فيها الراوي، والضحكات، والقصص، حتى ‏الدموع الداخلية، البربرية الساخنة، تيبست، كم من الأعوام أحتاج ليولَد ما التقطه الطائر ‏ذو الأجنحة الشاسعة!؟  

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى