“ما التقطته الأجنحة الشاسعة”
استيقظتُ اليوم في الصباح الباكر على أصوات غريبة، تكتكات تتوالَى تِباعًا دون توقُّف، إيقاع يشبه صوت ماكينة تسجيل واستخراج فواتير الشراء، طاقة ترُجُّني دون عنف، فتحتُ عينَيَّ فإذا بالفِرَاش من حولي وأرضية الغرفة تغمرهما الأوراق الممتدة الطويلة، شرائط مثل الفواتير، أوراق بلا نهاية تنفذ من صدري، وتحيط بي من كل اتجاه، كأنني اشتريت العالَم كلَّه، واقتنيت حتى سُحَبه وطيوره، رماله وأشجاره، ذُهلت؛ ما كل هذه الأوراق أو الفواتير؟
لم أفكر في ماهية القلب البديل، أهو بَشري، أم مصنَّع من خلايا جذعية؟ قالوا فقط: إنه أحدث ابتكارات العِلم.
لم أزَلْ في المستشفى؛ لأن عارضًا خطيرًا ــ لا يعرف الأطباء له سببًا ــ وقَع، جُرحي لا يلتئم، وصدري يأبَى أن ينغلق، يقولون إن المضخَّة الجديدة تمارِس مهامَّها بشكل طبيعي، تدفَع الدماء، وبعض الأدرنالين، وتوزِّع الدم بكل نواقله العصبية، وهرموناته على كل أجهزة الجسد، وخلال أسابيع سأعاود حياتي الطبيعية، مصْدَر قلقهم الأهم أن تلتئم مسامي وخلاياي.
في الحقيقة، هُم لا يشعرون بأنني معلَّقة في ضوء بعيد، معلَّقة في صمت أبيضَ وحيادٍ، دون أدنى مشاعِرَ، أستمع إلى دقَّات قلبي المصنَّع هذا فقط.
انطلق صراخ جهوري من الأجهزة الطبية الموصَّلة بجسدي؛ في الدقيقة التالية امتلأت الغرفة بالأطباء والممرضات، اعترتهم حالة من الدهشة، التي ألجمت أيديهم وعقولهم، ماذا يحدث؟
اندفعت يدُ إحدى الممرضات تلتقط شريط الورق، الذي ينفذ من جرحي، ويندفع خارجه دون توقُّف، لفلفَتْه؛ لتُفرِغَ الغُرفة من بحر العجائب هذا، لمحتُ الأوراق؛ فوجدتُ صورًا وعلاماتٍ، تأمَّلها أحدُ الأطباء، وحاول قراءتها؛ فلم يتبيَّنْها، قال: علامات مصورة تشبه اللغة الهيروغلوفية.
سألني: ماذا حدَث، هل تتألمين؟ من أين جاءت كل هذه الأوراق؟ ومتى؟ كيف أغرقت الغرفة هكذا؟ ماهي تلك اللغة؟ هل تعرفين أصحاب هذه الصور؟
نظرتُ إليه وإلى الأوراق، ثم قلت: نعم، بعضها لأبي، وصور لأمي قبْل أن ترتدي الحجاب، هذه صورة قبْل وفاتها بأيام، صور أخرى لنساء عرفتهم ورجال، أقارب وأصدقاء، بعضها لكُتَّاب قرأت لهم، هذه الصورة التي تتكرر، لرجُل أحببته ذات يوم، الصور الأخرى لأسئلة شغلتْني في الحياة.
قبْل إجراء العملية بأيام تحدَّث معيَ الطبيبُ، ذكَر أن المشاعر والذاكرة تواليف شديدة التعقيد، تحملها النواقل العصبية والغدد الصماء، التي تصدُر من الدماغ والنخاع الشوكي، ينظِّم القلب فقط ضَخَّ الدماء التي تحمل الهرمونات، والمواد الكيماوية، وتلك الإشعارات. كان يطمئنني لعملية الاستبدال، وأن القلب علاقته بالمشاعر والذاكرة ضمن منظومة، وليس منفردًا، لم أكترث بتقسيم الوظائف تلك، وانحصر هَمِّي في آليةٍ تُحييني لسنوات.
قالت صديقتي إنها تعرف سبَب العطب المدمِّر الذي أصاب قلبي، نظرتُ إليها مستنكِرة، ترجِّح إنني استنزفتُه بالفوران القابع خلْف صمتي، عَمِلَ طوال سنواتي بأقصى طاقته، فانهارت جدرانه، رجَّتْني: اصرخي للخارج، واجهي مَن يؤذِيَكِ، اصفعي العالَم.
لا عليكم من صديقتي، تُبالِغ، منذ يومين انسابت دموعي البربرية الساخنة ـــ كما كانت تصفها ـــ على وجنتيَّ، حين لمحتها تبكي، شابة لا أعرفها، كان الألم على ملامحها واضحًا، عصف بي بكاؤها، سألتُ رفيقتَها هل يمكنني المساعدة، شكرتْني وقالت: “لا، سأنقلها إلى المستشفى في التوِّ”، كنت قد سمعتُها تغالب دموعها لتقول لصديقتها: إنه لا يجيب على اتصالاتها منذ أسبوع مضَى، خِفتُ أن تغادر الحياة، كالفتاة التي انكسر قلبها منذ أيام وماتت.
بعد واقعة اجتياح الأوراق تلك، حضَر كبيرُ الأطباء، الحكيم الذي أوَّل الحادثة برفْض قلبي الجديد استلام كل إشعاراتي القديمة، وهو ما يبرِّر هذا الإفراغ الشامل لكل البيانات السابقة والذاكرة، حكَى أنني محظوظة؛ لأنني سأحظى بقلب جديد، (بيور)، غير مثقَلٍ. وأضاف: إن من توفَّروا على المسح والإحصاء الدقيق لكل ما وَرَدَ بشريط الأوراق، ميَّزوا منطقة سوداء واسعة تتكرَّر، يرجِّحون إنها مناطق توتُّر، غضَب، حَيرة. واستنتج الطبيب أنَّ جرحى سيلتئم في الأيام القادمة، بعد عملية الطرد هذه، والإنزال الصاخب. سألته هل تمَّ برمجة القلب الذي استبدلوه ليفعل هذا؟ هَزَّ رأسه نافيًا.
كنتُ – في أول ساعات إفاقتي بعد الجراحة – قد رأيتُ أحدًا يحمل قلبَين معًا، ويرتفع، مَرَّ فوق جِسْرٍ رفيع هَشٍّ بين جبَلَين شاهِقَين، في أقل من ثانية انقَضَّ طائر ذو أجنحة شاسعة والتقطهما، هيَّأتُ نفسي وقْتها للبياض، الذي يتحدَّثون عنه، لهَاوية أو نَفَقٍ بلا قرار.
في الأيام التالية، بعد واقِعَة الأوراق، كنت أتجوَّل في صحرائي الشاسعة، قتلني الضجر من الصفحات الفارغة، فكنتُ أنثُر بُقَع الحِبر، وأراقبها وهي تفترش جسدي، ملابسي، ستائر الغرفة، والأجهزة المعلَّقة بجواري.
جاءني البروفسير بعد أسابيع؛ يزفُّ لي خبرَ التئام جرحي، قال: كل ما أطلبه منكِ الآن أن تتوخَّي الحذَر، لا انفعالات شديدة، والرِّضا رغم ما فُقد. لم أترُكْه يكمل، وسألته: أين ذهبتم بالقديم؟ راوَغ مِرارًا، وحين لمَس إصراري، قال: لم يَجِدوه، أبلغ أحد الفنيين: إنه شاهد طائرًا ذا جناحَين شاسعَين يلتقطه ويطيرُ بعيدًا، ظلَلتُ أنظر إليه، ثم أومأت له أن يغادِر. صِرتُ نقطة النهاية في سرديةٍ خُطِف فيها الراوي، والضحكات، والقصص، حتى الدموع الداخلية، البربرية الساخنة، تيبست، كم من الأعوام أحتاج ليولَد ما التقطه الطائر ذو الأجنحة الشاسعة!؟