المومياء “تاكبوتي” تكشف علاقة المصريين القدماء بالأوروبيين
قبل شهور أعلنت الفتاة المصرية المقيمة في أستراليا تريفينا باسيلي، عبر وسائل التواصل الاجتماعي، أنها أجرت بواسطة إحدى الشركات المتخصصة فحصا جينيا لمعرفة أصولها، فاكتشفت انتماءها جينيا ووراثيا للعصر الصاوي (ملوك الأسرة السادسة والعشرين من سنة 666 إلى سنة 525 ق.م )، دون أي أصول أخرى، سواء أوروبية أو أفريقية.
واعتمدت الشركة التي أجرت للفتاة المصرية هذا الفحص على ما لديها من معلومات جينية تم جمعها من المومياوات المصرية التي تملأ متاحف العالم، ولا يبدو ذلك غريبا لكونها فتاة مصرية، ولكن الأمر الذي قد يبدو مفاجئا وكشفت عنه دراسة نشرتها دورية “جورنال أوف أركيولوجيكال ساينس”، أن مومياء مصرية في متحف “أولستر” بأيرلندا الشمالية لها أصول أوروبية وآسيوية.
المومياء التي خضعت للدراسة، هي المومياء ” تاكابوتي”، التي عاشت في طيبة بمصر خلال الأسرة الخامسة والعشرين (حوالي 660 قبل الميلاد)، وتم إحضار بقاياها المحنطة والتابوت الذي يحتوي عليها إلى بلفاست في أيرلندا الشمالية عام 1834.
189 عاما من الدراسات
ومنذ أن حلت المومياء ضيفة على متحف “أولستر” قبل 189 عاما، أجريت عليها عده دراسات، حيث كشف الفحص المورفولوجي الأولي، الذي أجري عليها فور انضمامها لمقتنيات المتحف، عن أنها أنثى يبلغ طولها 1.55 مترا (5 أقدام وبوصة واحدة)، وأسنانها محفوظة جيدا بشكل استثنائي، وتم تقدير العمر عند الوفاة بـ25-30 عاما، وكانت عليها ضمادات متحللة، مغموسة بصمغ التحنيط (الراتنغ)، وغطت الجسم بأكمله بما في ذلك الرأس والذراعين والساقين والقدمين.
وبعد أربعة أيام من هذا الفحص، تمت إعادة لف المومياء بالكتان الأيرلندي، وتركت الرأس وذراع واحدة وقدم واحدة مكشوفة، لتؤكد الدراسات الأكثر شمولا للمومياء، التي أجريت عن طريق التصوير بالأشعة السينية في عام 1987، والتصوير المقطعي المحوسب في عام 2006، معلومة أن عمرها عند الوفاة كان يتراوح بين 25 و30 عاما، وأنه “لا يوجد دليل على إصابتها بمرض خطير في مرحلة الطفولة”.
ثم خضعىت المومياء بعد ذلك، لعدة دراسات أكثر تفصيلا، أجراها الباحثون بمركز علم المصريات الطبي الحيوي بجامعة مانشستر البريطانية، وتم الإعلان عن نتائجها مؤخرا بدورية “جورنال أوف أركيولوجيكال ساينس”، وكانت إحداها تتعلق باستخدام التصوير المقطعي المحوسب متعدد المستويات وثلاثي الأبعاد لكامل الجسم، ليكشف ذلك عن أضرار لحقت بالضلوع قبل الوفاة، مما يدل على تعرضها لضربة بجسم حاد، ربما منحن، مما يشير إلى احتمال تعرضها للقتل.
ثم أكدت دراسة لمواد التحنيط حقيقة انتمائها للأسرة الخامسة والعشرين، حيث أخذت خزعة إبرة (20-30 ملغ) من الصمغ (الراتينغ) المستخدم في التحنيط، لتكشف التحليلات العضوية أن الصمغ إلى حد كبير نباتي الأصل، وتحديدا مصدره شجرة الأرز، وكشف التأريخ بالكربون المشع أنه ينتمي لفترة الأسرة الخامسة والعشرين.
وكانت الدراسة الأكثر إثارة، تلك التي كشفت عن الأصول الأوروبية والآسيوية لهذه المومياء، وذلك باستخدام الحمض النووي للميتوكوندريا.
ما هو الحمض النووي للميتوكوندريا؟
“الميتوكوندريا”، هي تراكيب صغيرة موجودة في الخلايا مهمتها تأمين الطاقة اللازمة للخلية حتى تستخدمها، ويُشار إليها باسم “مصانع الطاقة” في الخلية، والحمض النووي للميتوكوندريا هو مجموع المعلومات الوراثية المحتواة داخل هذه التراكيب الصغيرة، والتي تنتقل بشكل مُورّث فقط من بويضة الأم.
وعلى الرغم من أنه يمكن استخدام تسلسل الحمض النووي للميتوكوندريا لدراسة الارتباطات السكانية، إلا أنه كانت هناك صعوبة في المومياوات البشرية بسبب تدهور الحمض النووي، غير أن التقنية الحديثة، والمعروفة باسم “تسلسل الجيل التالي”، مكنت باحثي مركز علم المصريات الطبي الحيوي بجامعة مانشستر البريطانية، من التغلب على الصعوبات، وباستخدام عينات عميقة من عظم العمود الفقري، تحت مراقبة الأشعة السينية، حصلوا على أنسجة عظمية غير ملوثة، وفرت بيانات تحليلية غنية، قادتهم إلى تحديد أن المومياء “تاكابوتي” تنتمي إلى المجموعة العرقية للميتوكوندريا ذات الأصول الأوروبية والآسيوية، المعروفة باسم “إتش فور إيه وان H4a1”.
ولم يتم الإبلاغ عن هذه المجموعة قبل هذه الدراسة في العينات المصرية القديمة، وحديثا يتم الإبلاغ عنها بشكل نادر ومتقطع في مناطق تشمل جزر الكناري وجنوب أيبيريا ولبنان، كما تم الإبلاغ عنها في عينات قديمة تنتمي لحضارتي “القدور الجرسية” و”أونيتيتسكا” في ألمانيا، وكذلك في العصر البرونزي في بلغاريا.
ماذا يعني اكتشاف مجموعة الميتوكوندريا “إتش فور إيه وان”؟
بالنسبة لعلماء الوراثة الذين شاركوا في الدراسة، فإن قيمة هذا الاكتشاف تأتي من أنه يؤكد على حقيقة أن البقايا البشرية القديمة لا تزال تمثل كنزا من المعلومات الوراثية التي يمكن الحصول عليها باستخدام تقنيات “تسلسل الجيل التالي”، كما أنه يضيف إلى عمق المعرفة حول توزيع المجموعة العرقية “إتش فور إيه وان”، ومن ثم إنشاء خط أساس للتواجد المستقبلي لهذه المجموعة في البقايا المصرية القديمة.
أما بالنسبة للعلوم الأثرية، فإن التعرف على مجموعة عرقية ذات أغلبية أوروبية في فرد مصري بجنوب مصر، قبل التدفق الروماني واليوناني (332 قبل الميلاد)، يؤكد على حقيقة أنه كانت هناك علاقات بين مصر القديمة وشعوب أخرى من خارج المنطقة، ولذلك لم يبد خبراء في علم المصريات طلبت “الجزيرة نت” تعليقهم استغرابا من نتائج الدراسة، رغم أنها أول حالة يتم توثيقها وراثيا في مصر القديمة.
يقول جون كولمان دارنيل، أستاذ علم المصريات بجامعة ييل الأميركية في تصريحات عبر البريد الإلكتروني “العثور على مصري قديم من الألفية الأولى قبل الميلاد (حوالي 700 قبل الميلاد) لديه بعض الروابط العائلية مع أوروبا ليس مفاجئا تماما”.
فخلال عصر الدولة القديمة، حسب قوله، كان للمصريين القدماء علاقات تجارية مع الساحل الشمالي لبلاد الشام، وخاصة جبيل، ومع جزيرة كريت، مما ربطهم بكل من سافر وتاجر على طرق شرق البحر الأبيض المتوسط.
ويضيف قائلا “يوجد دليل رائع على هذه التجارة، وعلى اختلاط الأشخاص والمواد على سفن البحر الأبيض المتوسط في العصر البرونزي، في حطام سفينة أولوبورون، قبالة الساحل الجنوبي لتركيا الحديثة”.
وتابع أنه “بحلول أوائل الأسرة الثامنة عشرة في مصر، أي في منتصف الألفية الثانية قبل الميلاد، واجه المصريون أشخاصا كشفت مهاراتهم المعدنية ودروعهم العسكرية عن انتمائهم لجنوب شرق أوروبا.
وهؤلاء الأشخاص، الذين يُطلق عليهم اسم (شيردن) في النصوص المصرية القديمة، كانوا في النهاية أعضاء في (شعوب البحر)، وهي مجموعات من المغيرين والتجار الذين كانوا يسافرون بحرا وحاولوا في النهاية غزو مصر.
وشارك بعض هؤلاء الأشخاص في غزو واسع النطاق لمصر من قبل مجموعات ليبية في عهد مرنبتاح (حوالي 1213-1203 قبل الميلاد)، خليفة رمسيس الثاني، وهُزموا، لكن بالطبع انتهى الأمر بالعديد من الناجين، إن لم يكن معظمهم، إلى الاستقرار في مصر، حتى لو كانوا أسرى”.
ويضيف أنه “في عهد رمسيس الثالث (حوالي 1186-1155 قبل الميلاد)، أدى الغزو الهائل لشعوب البحر إلى إحداث دمار في معظم المجتمعات القديمة في شرق البحر الأبيض المتوسط، مع بقاء مصر فقط سالمة إلى حد ما، وإن كانت ضعيفة، ومرة أخرى، لم يكن من الممكن قتل أو طرد الجميع، واستوطن بعضهم (الفلسيت) على الساحل إلى الشمال الشرقي من مصر، وأسسوا تجمعا سياسيا من المدن شكل دولة اسمها فلستيا (منطقة فلسطين الحالية)”.
وخلص من ذلك إلى أن “المصريين القدماء لم يكونوا كارهين للأجانب، ولم يكونوا مجتمعا منغلقا، وتفاعلوا مع العديد من الناس على مدار آلاف السنين”.
مفترق طرق لقارات ثلاث
ويتفق داريو بيومبينو ماسكالي، من قسم التشريح والأنسجة والأنثروبولوجيا بمعهد العلوم الطبية الحيوية بجامعة فيلنيوس بليتوانيا مع ما ذهب إليه دارنيل، مؤكدا على أن هذه الحالة النادرة للمجموعة العرقية “إتش فور إيه وان”، التي تم إثباتها في الدراسة الجديدة، تؤكد على أن مصر القديمة، التي تقع على مفترق ثلاث قارات مختلفة، كانت مجتمعا متعدد الثقافات، حيث عاشت مجموعات عرقية مختلفة معا.
ويقول إن “المجتمع المصري القديم لم يقتصر على المصريين والنوبيين فحسب، بل حدث أيضا اندماج مع القوى الأجنبية التي حكمت البلاد على مدار التاريخ، بما في ذلك الفرس واليونانيون والرومان”.
وأبدى ماسكالي سعادته بنتائج الدراسة، قائلا إنها “تؤكد أن الدراسات الجينية ذات أهمية قصوى، لأنه مع الحد الأدنى من العينات، ودون الإضرار بسلامة المومياوات، يمكن الكشف عن قصص يصعب تخمينها من خلال الدراسة البصرية وحدها، مثل استكشاف وجود أعراق محددة وحالات مرضية من خلال التحليلات الجينية، والتي يمكن أن تكمل الدراسات الأنثروبولوجية التقليدية”.
ويقول رونالد ليبروهون، أستاذ علم المصريات المتفرغ بجامعة تورنتو الكندية، إن نتائج الدراسة لم تكن مفاجئة له، واعتبر أنها تحمل دليلا آخر على انفتاح المصري القديم على الآخر.
ويقول ليبروهون في تصريحات عبر البريد الإلكتروني إن “الأسرة السادسة والعشرين، التي جاءت بعد الفترة التي تنتمي لها (تاكابوتي)، هي الفترة التي عاش فيها عدد كبير من اليونانيين في مصر، بل إنه تم إنشاء مدينة (نوكراتيس) في الدلتا شمال غرب القاهرة الحديثة، لاستيعاب التجار اليونانيين الذين عاشوا في مصر، وهو ما يؤكد أن المصري القديم لم يكن كارها للأجانب”.
دليل من مواد التحنيط
ويشير كاتب علم المصريات والمؤرخ بسام الشماع إلى دليل آخر، يدعم ما جاءت به الدراسة، وهو مواد التحنيط التي اكتشفت في المواقع الأثرية بمنطقة سقارة في الجيزة.
ويقول إن “مصدر هذه المواد لم يكن مصريا، وهذا يكشف بوضوح عن وجود علاقات تجارية مع شعوب أخرى، ومن ثم لا يوجد ما يمنع من إقامة علاقات اجتماعية مع تلك الشعوب”.
ويضيف أنه حتى قبل تلك الاكتشافات، فإن صور الأواني الفخارية التي تعكس نمط الحياة في مناطق البحر الأبيض المتوسط، والمرسومة على جدران المعابد المصرية، تؤكد على طبيعة هذه العلاقات بين المصري القديم والحضارات الأخرى”.