أخبار

قصة وفاء ورثاء

كانت تسكن على ناصية شارعنا في بيت كبير يطل على شارعين وتتوسطه أشجار الزيتون وأنواع أخرى واحيانا بعض الزراعات الموسمية كالذرة النيلي التي كنا نشويها ليلا وفي احد زوايا الدار جراج كان يضع فيه العم عبيد زوجها رحمه الله سيارته النقل وبعدها ابنه سمير سيارته الميكروباص وتشغل غرف المعيشة جزء اقل من ثلث مساحة البيت ام غرفة الفرن ومشتملاته فهي الاوسع على الاطلاق في بيوت شارعنا والذي شهد صولات وجولات من الخبيز الى الكعك والبسكويت في ليالي العيد…كان يحلو لنا السهر على ضي القمر في وسط الدار فقد كانت احدى البنات زميلة لأختي في الدراسة وتوأمها مع زميلة أخرى ونظرا لان بيتنا ليس فيه غيري وامي..فلأمانع ان يقضيا ليلتهم بعد المذاكرة مع كوثر رحمها الله واظل انا في مكاني أيضا في هذا البيت الواسع وتأخذني غفوة النوم في براح ساحة البيت تحت النجوم الى الصباح…فقد كانت الحاجة ام سمير طيبة القلب ضاحكة الثغر بشوشة الوجه ذات صوت خفيض لم اراها يوما غاضبة ولم يسمع احد لها صوتا عبر السنين برغم كثرة العيال وتحبني كأولادها وانا احبها كأمي فهي صديقتها حيث كانت تحضر معها اجتماع العصر وهو الاجتماع اليومي الذي يعقد كل يوم في احد البيوت حيث القهوة وربما بعض المعجنات المنزلية و الذي يضم معظم سيدات الشارع وان كانت مقلة في الحضور لأنهن جميعا من الارامل اما هي كانت تنتظر زوجها ولاتنضم الى مجلس الإدارة الا عندما يكون مسافرا او في زيارة…ومرت الأيام وكبرنا وسافرنا الى الجامعات ولكن الوصل لم ينقطع وظلت المودة قائمة فأصدقاء اختي كانوا لي كالمحرمات احبهم كحبي لها حتى بعد ان توفاها الله احب ان اراهم فهم من رائحتها فقد فارقتنا مبكرا وكانت توأمي في الحياة…منذ الصغر تبكي اذا بكيت وتفرح اذا فرحت وظلت كذلك الى ان سمعت صوتها في التليفون قبل وفاتها بساعة بعد ان نهش المرض الخبيث كل جسدها… وفي يوم ما دخلت الى عيادتي في العريش الحاجة ام سمير حيث كنت في تلك الفترة ما بين العريش والقاهرة وكانت قد تعافت من اثر إزالة ورم في المخ …وقالت لي ان الأطباء قرروا ان اجري عملية استئصال الرحم وانا جايالك عشان تعملي العملية..فاسقط في يدي ..فهي قد تجاوزت السبعين تقريبا ولديها مشاكل طبية وهي أيضا صديقة المرحومة امي واحبها أيضا بنفس القدر وهي اخر من تبقى من هذا الجيل…المهم اني قررت ان اصطحابها معي الى القاهرة وادخلها مستشفى النسا بالدمرداش خوفا عليها من مضاعفات التخدير وأجريت لها العملية بصحبة احد الزملاء وانا اضع يدي على قلبي..ويشاء الله ان تتعافى وتعود سالمة الى منزلها العامر لتزورني في منزل العريش وهي تلبس ملايتها السوداء وهو الزي القديم والتي تخلى عنه كل هذا الجيل… محملة بالهدايا وقد مضى على هذه الواقعة اكثر من خمسة عشر عاما…وكنت حريصا كلما زرت العريش ان اطمئن عليها اما من احفادها اذا لم يسعفني الوقت او ان ازورها فانا ما زلت في نفس الشارع واتعجب انها تعرف عني الكثير وانني مرضت وأجريت عملية وسافرت الى الخارج وأجريت جراحة..وانها من المؤكد كانت تعرف ذلك اما من احفادها او أبنائها فكانت تبرني بالدعاء وانا مقصرا في حقها… فأحيانا بالزيارة واحيانا بالسؤال وكانت اخر زيارة لي منذ اكثر من ثلاثة شهور وجلست معها قليلا وكانت تشكوا لي ما انتابها من امراض الشيخوخة التي هاجمتها واصرت ان اجلس لأشرب القهوة ..وشاءت الاقدار ان يكون اخر لقاء فقد رحلت امس الحاجة ام سمير ..اخر أصدقاء امي الحاجة وهيبة “ياسمين“، رحلت اخر ذكرى كانت تربطني بهذا الشارع وايام لا يمحوها كل ما استجد من عمارات ومحلات وسيارات تصطف على جانبه لم تكن في حسبان أيام الطفولة…رحلت الحاجة ام سمير التي لم استطع ان احبس دمعتي عليها وانا اقرأ الخبر على صفحة ابنتها صديقة اختي…رحلت الطيبة التي لن تتكرر ..واحد اقطاب الجيل الذي يرمي حمولة على الله ولا يحسب لدنيانا أي حساب …رحلت اخر ضحكة بريئة في شارعنا العتيق..وعندما هممت اكتب نعيا على صفحتي فانساب دمعا من خلائقه الكبر…فأكملت مقالا لو كتبته بمداد ربما لم نرى له معالم فقد اختلط الحبر بالدموع وكأني انعي امي من جديد…سلاما لروح الحاجة وهيبة “ياسمين” وسلاما لروح الحاجة ام سمير وكل جيل الاطهار ما تعاقب الليل والنهار

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى