أخبار

معركة العقاب.. بداية خسارة الأندلس

معركة فاصلة في التاريخ الإسلامي، وقعت في يوليو/تموز 1212م بالقرب من وادي “تولوسا” و”حصن العقاب” في الجنوب الإسباني، بين جيش المسلمين المكون من الموحدين وجموع المسلمين بقيادة الخليفة الموحدي محمد الناصر، وجيش الإسبان المكون من حشود الصليبيين بقيادة ملك قشتالة ألفونسو الثامن.

هُزم المسلمون فيها وتكبدوا خسائر فادحة في الأرواح والأموال، وتحوَّل ميزان القوى لصالح الإسبان، فكانت بداية تحقيق المشروع الاستردادي الإسباني، وتقهقُر دولة الإسلام في الأندلس، كما مثلت أول مسمار دُقّ في عرش دولة الموحدين أدى فيما بعد لانهيارها.

أسباب المعركة

حقق الخليفة الموحدي أبو يعقوب المنصور نصرا كبيرا على الإسبان في موقعة الأرك عام 1195م، واستولى على قلعة رباح ونزل إلى مدينة طليطلة وتوغل في شبه جزيرة إيبيريا (شبه جزيرة إسبانيا)، ولم يكن الوئام سائدا بين الممالك الإسبانية النصرانية، فخاضت قشتالة المعركة وحدها مع الموحدين، ولم تجد بعد هذه الهزيمة الساحقة ضمانا لسلامتها سوى عقد الهدنة معهم.

فأرسل حاكم قشتالة يطلب الهدنة، فهادنه المنصور لمدة 10 سنين، ثم عاد إلى مراكش، وركن القشتاليون إلى فترة من الهدوء والسلام انتظارا للفرصة السانحة للوثوب مرة أخرى، وكان ألفونسو الثامن ملك قشتالة منذ هزيمة الأرك يتوق إلى الانتقام لهزيمته.

ولما توفي المنصور، اعتلى ابنه محمد الناصر لدين الله العرش عام 1198م، وانشغل بالفتن والثورات الداخلية، واستيلاء بني غانية على القواعد والثغور في أفريقيا، فحررها واسترد سيادة الموحدين عليها، ولم يستطع خلال هذه الفترة، التي استمرت زهاء 12 عاما، أن يعنى بالأحداث القائمة في الأندلس.

” alt=”” aria-hidden=”true” />Arches of urban bridge in Cordoba cityscape, Andalusia, Spain - stock photo
أقواس الجسر الحضري في مدينة قرطبة بإسبانيا (غيتي)

وفي هذه الأثناء قامت الممالك الإسبانية، ما عدا مملكة ليون، بمحاولة إرساء السلام بينها، فعُقدت هدنة بين نافارا وقشتالة سنة 1207م لمدة 5 أعوام، ثم تدخل ملك قشتالة بعد ذلك بين ملك نافارا وملك أراغون، فعقدت بينهما هدنة سنة 1209م.

وكان أجل الهدنة المعقودة بين ألفونسو الثامن وبين الموحدين هو سنة 1215م، ولكن ملك قشتالة الذي شعر بنوع من الطمأنينة والأمل في عون الممالك الإسبانية، أراد استئناف الحرب مع الموحدين، فحصّن قلعة “مورا” الواقعة على حدود المسلمين عام 1209م تحصينا قويا.

وخلال تلك السنة والتي تلتها خرق القشتاليون الهدنة، وأغاروا على منطقة جيّان وبياسة وأندوجر، وعادوا إلى طليطلة محملين بالغنائم، بعد أن قتلوا وسبوا ودمروا وأحرقوا الزرع والحقول، وحذا بيدرو الثاني ملك أراغون حذو ملك قشتالة، فعاث في منطقة بلنسية انتقاما لغزو السفن الموحدين لشواطئه، واستولى على عدد من حصون المنطقة.

ولم يكن في مقدور الحاميات الموحدية الصغيرة أن ترد الجيوش الغازية، فاستنجدت بالناصر، الذي حشد وانطلق إلى شبه الجزيرة الإيبيرية ليضع حدا للغارات الإسبانية، وأخذ يستعد للمعركة، وأرسل كتبه إلى سائر أنحاء المغرب وأفريقيا وأهل القبلة لدعوة الناس إلى الجهاد.

حشد الجيوش والاستعداد للمعركة

أقبلت الحشود المسلمة من سائر الأنحاء، وجُهزت بما يلزم من العتاد والسلاح والكساء والمؤن وحُشدت السفن، ثم عبر الناصر بجيوشه الجرارة إلى شبه الجزيرة، ولما استقر به المقام في إشبيلية في أواخر مايو/أيار 1211م، أمر باستنفار الحشود الأندلسية، وصُنع الآلات الحربية واستدعاء العمال والولاة واستكمال الإمداد من سائر الجهات.

وأصبحت الجيوش الموحدية في حالة تعبئة كاملة من الموحدين والعرب وأهل الأندلس والمطوعة والأغزاز وغيرهم من طوائف الجند، وسار بهم الناصر نحو قرطبة في أواخر يوليو/تموز 1211م، ثم سار منها إلى جيّان وبيّاسة، ثم شمالا نحو قلعة شلبَطَرّة، وكانت تقع على ربوة عالية على مقربة من جبل الشارات.

” alt=”” aria-hidden=”true” />Old engravings. Depicts Saint Bernard of Clairvaux. The book "History of the Church", circa 1880
رسم يحاكي مشهد أحد الجيوش الصليبية (شترستوك)

وطوق الموحدون قلعة شلبطرة، وهي أكبر وأمنع قلاع تلك الناحية، وكان القشتاليون قد اتخذوها قاعدة لشن غاراتهم على المسلمين، وبعد أن استولى المسلمون على أرباضها، نصبوا حولها 40 قطعة من المجانيق الهائلة، وضربوها بالحجارة الضخمة، وأمطروها بالنبال والسهام، وأبقوها تحت حصار طويل حتى اضطرت الحامية إلى تسليم القلعة ومغادرتها

وتفاقم الخطر على إسبانيا بعد تلك الواقعة؛ مما جعل ملك قشتالة يبذل أقصى جهوده لمقاتلة الموحدين، وسعى لدى البابا ليضفي على الحرب الصبغة الصليبية، فاستجاب البابا لرغبته وتحرك الرهبان والقساوسة ليثيروا حماسة الشعوب النصرانية، ولم يقتصر ذلك على إسبانيا بل امتد إلى أوروبا، ولم تلبث القوى الصليبية أن انهالت على إسبانيا من إيطاليا وفرنسا وسائر بلاد أوروبا.

واجتمعت الجيوش الوافدة من المحاربين الصليبيين في قشتالة حتى بلغ عددهم أكثر من 10 آلاف فارس و100 ألف من الرّجَّالة (المشاة) في شهر يونيو/حزيران سنة 1212م.

وكان الأساقفة يرأسون صفوف المحاربين من مختلف المدن، ويتولون الإنفاق على حشودهم، وتلقى ملك قشتالة أيضا مبالغ من الأموال والسلاح والمؤن، أُرسلت إليه من فرنسا وإيطاليا، وأنذر البابا إنوصان الثالث ملوك إسبانيا بتوقيع عقوبة الحرمان الكنسي على كل أمير يتأخر عن المساعدة.

كما دعا البابا إلى صوم 3 أيام، وأقيمت الصلوات العامة وعمد رجال الدين إلى ارتداء السواد والسير حفاة وسارت المواكب الدينية في الطرقات، وألقى البابا بنفسه موعظة طلب فيها من النصارى أن يتضرعوا ويدعوا لنصر الإسبان، وأعلن أنه سيمنح صكوك الغفران لمن يذهب معهم إلى الحرب.

وقام الموحدون من جانبهم بمثل هذه الاستعدادات، فاستنفر الناصر عقب عودته إلى إشبيلية من غزوة شلبطرة الناس من سائر الجهات، ليضاعف حشوده ويدعم جيوشه فاجتمعت له قوات جديدة كثيرة.

” alt=”” aria-hidden=”true” />The Mosque–Cathedral of Córdoba aerial view at night in Spain.
كاتدرائية قرطبة في إسبانيا (شترستوك)

المسير إلى المعركة

في 20 يونيو/حزيران 1212م خرجت الجيوش الصليبية من طليطلة باتجاه الجنوب، وكانت مقسمة إلى 3 جيوش رئيسية:

  • الجيش الأول: وهو جيش الطليعة بقيادة القائد القشتالي ديجو لوبيث دي هارو، ويتألف من قوات الوافدين التي قُدِّرت بما بين 60 ألفا و100 ألف مقاتل.
  • الجيش الثاني: بقيادة بيدور الثاني ملك أراغون، ويتكون من قوات أراغون وقطلونية وفرسان الداوية.
  • الجيش الثالث: وهو جيش المؤخرة ويقوده ألفونسو الثامن، ويتألف من قوات قشتالة وليون والبرتغال، وفرسان قلعة رباح وشنت ياقب والأسبتارية.

واستمرت الجيوش الصليبية في سيرها، فاستولت على حصن ملجون في 24 يونيو/حزيران، وهو من حصون الحدود الإسلامية، ثم زحفت صوب قلعة رباح وكان الخليفة المنصور قد استولى عليها عقب موقعة الأرك وعيَّن لقيادتها أبا الحجاج يوسف بن قادس.

وكانت القلعة فضلا عن مناعتها الطبيعية بوقوعها جنوبي نهر وادي يانة، تتمتع بأسوار وأبراج في منتهى المناعة، فطوقتها الجيوش الصليبية، ثم هجمت عليها يوم 30 يونيو/حزيران واحتلت قسمها الخارجي الذي يحاذي النهر، وهو القسم الأضعف.

ودافعت الحامية الإسلامية ببسالة، وأخذ ابن قادس يستنجد بالناصر ويرسل إليه الرسائل، وأخفى الوزير أبو سعيد بن جامع الرسائل، ولم يُطلع الخليفة عليها، وطالت مدة الحصار، ونفدت المؤن والسلاح، فاضطر ابن قادس إلى تسليم الحصن، وصالح ألفونسو الثامن -الذي كان يؤيد الحل السلمي- على أن يخرج ومن معه من المسلمين آمنين. وكان الصليبيون الوافدون من أوروبا على العكس من ذلك، يريدون ذبح الحامية الإسلامية ورَفْض أيّ تسوية سلمية، وتزامن ذلك مع ارتفاع الحرارة في إسبانيا، إضافة إلى ما أشيع من أن ملك قشتالة قد استأثر لنفسه بالتحف والذخائر التي كانت بالقلعة، فتنامى الغضب بين صفوف الجنود الوافدين حتى انشق كثير منهم، قُدِّر عددهم بنحو 50 ألف مقاتل، تركوا ألفونسو الثامن وعادوا إلى بلادهم

وفي ذلك الحين كان الناصر قد وصل بجيوشه الجرارة إلى جيّان، وهنالك استقر بظاهرها أياما، منتظرا عبور النهر، ووقف على ما وقع من أحداث على الحدود، من سقوط قلعة رباح في يد العدو، وما حدث على إثر ذلك في المعسكر النصراني من الشقاق.

وقدم ابن قادس مع صهره ونفر من أصحابه على الخليفة، فمنعه الوزير ابن جامع من لقائه، وصوّر موقفه للخليفة أسوأ تصوير واتهمه بالخيانة فأمر الناصر بإعدامه هو وصهره من دون أن يستمع إليه.

وكان لمصرع القائد الأندلسي على هذا النحو، وقع عميق بين مواطنيه من جند الأندلس، ولما شعر الوزير ابن جامع بما حدث من تغير نفوس الأندلسيين استدعى قادتهم وأنذرهم بمغادرة الجيش، وكان لهذه الحادثة أسوأ الأثر على معنويات الجيش الإسلامي.

ومن جانب آخر، استطاع ألفونسو الثامن، عقب استيلائه على القلعة، أن يتغلب بسرعة على ما حدث في معسكره بسبب رحيل بعض طوائف المحاربين الوافدين، وأن ينظم ما بقي من قواته، واستأنف سيره إلى الجنوب.

عبرت قوات ألفونسو مرتفعات جبل الشارات (سييرا مورينا) واحتلت البسيط العلوي المقفر المُسمى “ممر مورا دال”، يوم 13 من يوليو/تموز 1212م، واحتلت قلعة “فيرال”، التي تسمى أيضا حصن “العقاب” في قمة الجبل، ثم سارت حتى وصلت إلى سهل أبدّة وتوقفت في بسيط “مائدة الملك” وحصنت ما حوله، وظلت بقية الجيش مرابطة وراءه.

وأما الخليفة الناصر فقد تحرك بجيوشه نحو الشمال، وكانت الجيوش الموحدية تضم طوائف العرب والقبائل المغربية مثل صنهاجة وزناتة والمصامدة وغمارة وغيرها، والجنود المتطوعين، وجند الموحدين النظاميين، وجنود الأندلس

واخترقت الجيوش الموحدية نهر الوادي الكبير، وعبرت ممرات جبل الشارات المؤدية إلى بياسة وأبدة، ومنها إلى ممر “لوسا” الوعر، ثم استقرت في البسيط المسمى بـ”المرشة” في انتظار لقاء العدو.

” alt=”” aria-hidden=”true” />Knights and Soldiers, First Crusade, 11th Century, Illustration, The History of Costume, Braun & Schneider, Munich, Germany, 1861-1880. (Photo by: Universal History Archive/Universal Images Group via Getty Images)
رسم توضيحي للمقاتلين الذين كانوا يشاركون في الحملات الصليبية (غيتي)

وقائع المعركة

بدأت معركة “العقاب” -التي تعرف في أوروبا بمعركة “نافاس دي تولوسا”- في الصباح الباكر من يوم الاثنين 16 يوليو/تموز سنة 1212م، أسفل الأكمة المسماة “مائدة الملك” على مقربة من وادي “تولوسا” أو عقاب “تولوسا” في جنوب إسبانيا.

وكان جيش الصليبيين ينقسم إلى 3 أقسام رئيسية، يتزعم كل قسم منها، ملك من الملوك

  • القسم الأول: يتكون من القلب ويقوده ملك قشتالة ألفونسو الثامن، مع احتفاظه بالقيادة العليا.
  • القسم الثاني: يتكون من الجناح الأيمن، ويقوده سانشو ملك نافارا، ويضم القوات النافارية، وجند سرية وآبلة وشقوبية ومدينة سالم، وفرسان فرنسا الذين يرأسهم مطران أربونة، وجند جليقية والبرتغال.
  • القسم الثالث: يتكون من الجناح الأيسر، ويقوده بيدرو الثالث ملك أراغون، ويشتمل على قوات الطليعة والقوات التي يقودها أشراف أراغون.

وقد وُزع كل قسم من هذه الأقسام إلى وحدات عديدة، فوضع في القلب فرسان الداوية والأسبتارية وفرسان قلعة رباح، وكل منهم تحت إمرة قائدهم الخاص، وكذلك الصفوف التي يقودها مطران طليطلة و5 من الأساقفة القشتاليين.

وأما الجيش الموحدي الذي بلغ على أقل تقدير نحو 200 ألف مقاتل، وقد أوصله بعضهم في شيء من المبالغة إلى 500 ألف مقاتل، فقد قُسم إلى خمس فرق:

  • الفرقة الأمامية: وتتألف من القوات المتطوعة من مختلف الطوائف،
  • قوات القلب: تتكون من جند الموحدين.
  • فرقة الميمنة: وتتألف من القوات الأندلسية
  • فرقة الميسرة: وتتألف من قوات البربر من مختلف القبائل.
  • فرقة القوات الاحتياطية: وكانت من جند الموحدين وهم أغلبية الجند النظاميين.
” alt=”” aria-hidden=”true” />
رسم توضيحي لمقاتل من جيوش المسلمين (الجزيرة الوثائقية)

وكان كل من الجيشين على أهبة الاستعداد، وبدأ الصليبيون الهجوم فهبطت طلائعهم مسرعة من المرتفع في بسيط “مائدة الملك” إلى السهل الأسفل الذي يحتله الجيش الموحدي، وانقضت على مقدمته، فلقيتهم صفوف المتطوعة بقوة وثبات.

واقتتل الفريقان بشدة حتى بدأ الصليبيون التراجع، ثم عادوا إلى الثبات بعد تعزيزهم بفرق الفرسان، التي صعب على المتطوعة الموحدين اختراقها، ثم ارتدوا تحت ضغط الصليبيين الهائل، وكثر القتل فيهم، ويُذكر أنهم لبثوا يقاتلون حتى استشهدوا عن آخرهم.

ثم تقدم الصليبيون بعد التغلب على فرق المتطوعة إلى قلب الجيش الموحدي، حيث لقوا أشد مقاومة، ورُدوا على أعقابهم، وهجم جناحا الجيش الصليبي على جناحي الجيش الموحدي، واحتدم الجيشان في معركة حامية الوطيس، واستطاعت قوات الميمنة والميسرة الموحدية بعد قتال عنيف أن ترد جناحي الجيش الصليبي، الذي أخذ في الارتداد والفرار، ولاح للفريقين أن لواء النصر سوف يُعقد للموحدين.

وحين شاهد ألفونسو الثامن من فوق المرتفع ما آلت إليه المعركة، وما ينذر به ذلك من هزيمة محققة، نزل إلى الميدان بقواته الاحتياطية المختارة، من قوات قشتالة وليون واندفع بها إلى الصف الأمامي في قتال مستميت.

وتبعه في الوقت نفسه ملكا أراغون ونافارا كل في قواته، نحو جناحي الجيش الموحدي، وهجمت القوات الصليبية كلها في وقت واحد بمنتهى العنف والشدة، حتى بدأت ميمنة الجيش الموحدي وميسرته في الارتداد، وفرّ الأندلسيون والعرب، وأحدث فرارهم اضطرابا في الصفوف.

وهنا تمركز هجوم الصليبيين على قلب الجيش الموحدي، المكون من الجنود النظاميين والاحتياطيين، وشددوا الهجوم على الموحدين الذين صمدوا ودافعوا ببسالة، وكان الخليفة الناصر قد أدرك خطورة الموقف، فنهض من مجلسه وأخذ يحث جنوده على الاستبسال.

” alt=”” aria-hidden=”true” />منظر عام لمجمع قصر الحمراء، أهم المعالم التاريخية لمدينة غرناطة التي تنتهي إليها كافة مسارات التراث الأندلسي.
منظر عام لقصر الحمراء أهم المعالم التاريخية لمدينة غرناطة في الأندلس (الجزيرة)

واستطاع الصليبيون أن يخترقوا قلب الجيش الموحدي كما اخترقوا الدائرة المدرعة، ومُزق الجيش الموحدي من كل ناحية وكثر القتل فيه

ولبث الناصر في مكانه صامدا لا يتزحزح، ثم اضطر في آخر لحظة إلى أن يمتطي صهوة فرس، فيفرّ مع نفر من خاصته جنوبا نحو بيّاسة، ومنها إلى جيان، وكانت فلول الجيش الموحدي عندئذ تفر في كل ناحية، ومن ورائها الفرسان الصليبيون يُمعنون فيها قتلا، واستمرت هذه المطاردة المروعة حتى دخل الليل.

وقبيل مغيب الشمس، كان الملوك والمطران والأساقفة وجزء كبير من الجيش الصليبي، قد دخلوا محلة الجيش الموحدي واستقروا بها وأضحى أثرا بعد عين.

نتائج المعركة

كانت هزيمة المسلمين قاصمة للظهر، فقد تكبدوا خسائر فادحة في الأرواح، وإن تباينت التقديرات بشدة في حجم الخسائر البشرية، ومن المؤكد أن عدد القتلى كان كبيرا جدا حتى رُوي أن معظم الجيش قد هلك، وذهبت قوات المسلمين والموحدين في الأندلس والمغرب، كما سقط في المعركة كذلك عدد من الأكابر والعلماء والحفاظ.

وحالت هذه الضربة القاسية لجيش الموحدين وجموع البربر فيما بعد دون قيامهم بحملات عسكرية عظيمة، ولم يستطع الموحدون أن يقوموا في أعقابها إلا بغزوات عابرة، إذ لم يقدروا على تعويض ما فقدوه من جنود أثناء المعركة والفرار منها.

” alt=”” aria-hidden=”true” />
معركة العقاب سقط فيها كذلك عدد من الأكابر والعلماء والحفاظ (الجزيرة)

ومن المؤكد أن خسائر الصليبيين في الأرواح كانت كبيرة أيضا في هذه المعركة التي التحم فيها الجيشان بأسرهما، ومُنيت هجمات النصارى الأولى بخسائر كبيرة، إذ لم ينجحوا في اختراق قلب الجيش الموحدي إلا بعد جهد جهيد، وبعد أن ألقوا في المعركة بقواتهم الاحتياطية، ولا يمكن أن تقل هذه الخسائر عن ألوف عديدة.

ومع ذلك، كانت النتيجة النهائية لصالح الصليبيين، الذين استولوا على غنائم وفيرة من العتاد والسلاح والخيام والذهب والفضة والنقود الذهبية والبسط والآنية الثمينة والثياب والأقمشة الفخمة، وكذلك على مقادير عظيمة من المؤن، وعلى ألوف مؤلفة من دواب الحمل، فكانت من أعظم الغنائم التي ظفروا بها

كما استولوا على خيمة الناصر الحريرية الموشاة بالذهب، واستولى ملك نافارا على السلاسل الحديدية التي كانت تحيط بقبة الخليفة، ومن أهم الغنائم أيضا علم موحدي ضخم كان مما يُعلَّق في خيمة الخليفة، وهو عبارة عن سجادة كبيرة، ملئت بنقوش عربية جميلة، وآيات قرآنية وأدعية مختلفة، ومازال يحتفظ به بين ذخائر إسبانيا في مدينة برغش بالدير الملكي.

ومما أسفرت عنه المعركة، أنها فتحت الباب لألفونسو الثامن لجني ثمار ظفره العظيم في موقعة العقاب باقتطاع ما استطاع من الأراضي الإسلامية، فاستولى في غضون أيام على معظم الحصون الإسلامية في تلك الناحية، وكان من بينها حصن فرّال (حصن العقاب)، ثم سار إلى مدينتي بيّاسة وأبّدة فاستولى عليهما بعد أن قتل وسبى وخرّب وعاث فسادا.

تداعيات المعركة

تعدّ معركة العقاب إحدى المعارك الفاصلة في التاريخ الإسلامي قاطبة، وقد كانت وبالا على المسلمين عامة والموحدين في المغرب والأندلس خاصة، إذ مثلت بداية لتقهقر دولة الإسلام في الأندلس إيذانا بزوالها، كما كانت أول مسمار دُقّ في نعش دولة الموحدين، وشكلت تحولا كبيرا في تاريخ الدولة أدى إلى انهيارها.

” alt=”” aria-hidden=”true” />طارق بن زياد.. نبش في لغز المصير المجهول لفاتح الأندلس
رسم توضيحي لإحدى المعارك قديما (غيتي)

فقد قضت الهزيمة نهائيا على سمعة الموحدين العسكرية في شبه الجزيرة الإيبيرية، وتحطم ذلك الدرع الذي كانت تسبغه الجيوش الموحدية القادمة من وراء البحر على الأندلس وعلى دولة الإسلام فيها.

كما حولت الهزيمة ميزان القوى لصالح الإسبان، وكانت بداية تحقيق المشروع الاستردادي الذي راود النصارى منذ عقود من الزمن، فأصبحت الفرصة مناسبة لتسديد الضربات للمسلمين في الأندلس، والاستيلاء على أراضيهم، فكانت بداية انهيار دولة الإسلام في الأندلس.

وأدت ​​حركات الاسترداد إلى هجرة أعداد كبيرة من المسلمين وكذلك اليهود فارين بدينهم وأنفسهم وأموالهم من الاضطهاد النصراني، وأخذوا يتجهون نحو المغرب الذي كان بالنسبة لهم الملاذ الآمن.

وكذلك استغلت حركات محلية أندلسية طامعة في الاستقلال، مثل حركة ابن هود وحركة ابن مردنيش وحركة ابن الأحمر ضعف الموحدين، فقاموا بثورات تهدف إلى الاستقلال فانحدرت المنطقة إلى الفوضى الطاحنة، وانتثرت إلى أحزاب وشيع جديدة.

وفي بلاد المغرب، بعد تلك الهزيمة القاسية، بدأت مظاهر الضعف تنخر أركان الدولة التي كانت قوة سياسية عظمى، لا سيما بعد وفاة الناصر عام 1213م، وتولي حكام ضعاف الخلافة بعده، فقامت حركات تمرد وثورات في بلاد المغرب تهدف للاستقلال.

وكان من التداعيات انهيار اقتصاد الدولة الموحدية، الذي أثرت فيه الهزيمة ونشوب الفوضى، فتعرضت التجارة الداخلية والخارجية إلى نكسة عظيمة، وتوقفت القوافل عن السير بسبب انعدام الأمن، وحدث شلل في النشاط الزراعي بسبب هجرة الفلاحين لأراضيهم نتيجة الأعمال التخريبية والفوضى التي أحدثتها الحروب الطاحنة.

كما صاحب الهزيمة انحدار في الحياة الفكرية، وظهر ذلك جليّا في ضعف الحس التأليفي الذي اقتصر على المختصرات والحواشي والشروح، وكان من المآسي الحضارية في ذلك الوقت الهجرة الجماعية للعلماء من الأندلس والمغرب إلى مناطق أكثر أمنا.

YouTube Poster

أسباب الهزيمة

كان من أهم الأسباب التي ساقت إلى هذه الهزيمة النكراء شخصية الخليفة محمد الناصر الذي لم يكن يتمتع بكفاءة قيادية كافية، وظهر ذلك من خلال الإجراءات التي قام بها منذ بداية سير الجيش الموحدي وحتى انهزامه.

فلم يضع خطة محكمة للقتال، وجعل المتطوعين في مقدمة الجيش، ووضع الجيش النظامي من خلفهم، فعلى الرغم من أن المتطوعين كانوا متحمسين للقتال بصورة كبيرة، فإنهم ليست لديهم الدراية الكافية بقتال مقدمة الجيش الصليبي، الذين كانوا من أجود المقاتلين.

إضافة إلى اعتداده برأيه، وعدم استشارة الخبراء العسكريين واعتماده على شخصيات من بطانة السوء كوزيره ابن جامع، الذي أشار عليه بالحصار الطويل لقلعة شلبطرة، الأمر الذي أنهك قوى الجيش.

كما أخفى عنه رسائل ابن قادس، ثم أشار عليه بقتله وأهان القواد الأندلسيين وأنذرهم بمغادرة الجيش، وقد كان لهذه الحوادث أسوأ وقع في نفوس الأندلسيين، وفي تثبيط همتهم في القتال، وكان الأندلسيون على الرغم من قلتهم العددية، عنصرا هاما في جيوش الغزو الموحدية المقاتلة بالأندلس، لأنهم كانوا أكثر خبرة بقتال الإسبان وطريقتهم في الحرب، وأكثر دراية بأرض المعركة.

ومن ناحية أخرى، أبدى الناصر عُجبا واعتدادا بكثرة جموعه واعتمد على تفوقه العددي البالغ وقلل من شأن العدو، مما دعاه إلى عدم الحذر والاحتياط في لقاء العدو.

ومن الأسباب التي أدت إلى الهزيمة كذلك اختلال نظام الجيوش الموحدية الكبيرة العدد وعدم اتساق تنظيماتها، وتنافر العناصر المكونة لها، وعدم توحيد قيادتها بأيدي قادة يتسمون بالبراعة العسكرية، إضافة إلى اختلال نظام التموين بها، نظرا لبعدها عن قواعدها مسافات شاسعة.

كما أن الدولة الموحدية قبيل معركة العقاب لم تكن قد استردت عافيتها، بعد أن أنهكتها الثورات الداخلية والأزمات سنوات، وكذلك تغيُّر قلوب الموحدين، وسخطهم على الوزراء والقادة، وذلك بسبب حبس أعطياتهم وتأخرها وإخراجهم إلى الغزو وهم كارهون، وقد خبت قواهم المعنوية.

 

المصدر : الجزيرة + مواقع إلكترونية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى