سر عملية السحب “التريلونية” الضخمة من البنوك المصرية
سحب البنك المركزي المصري، الثلاثاء، أكثر من تريليون جنيه، فائض سيولة من البنوك المحلية، وذلك للمرة الأولى، حسب ما تشير الإحصاءات المنشورة عبر موقعه الإلكتروني.
ووافق المركزي المصري على 1.05 تريليون جنيه (22.4 مليار دولار) ودائع ذات عائد ثابت عند 27.75 بالمئة تودعها البنوك المحلية لديه لمدة 7 أيام، وذلك ضمن مزادات ودائع عمليات السوق المفتوح، وهي آلية يقول إنها “تهدف إلى امتصاص فائض السيولة لدى البنوك؛ لتحقيق أهدافه التشغيلية فيما يتعلق بالسياسة النقدية المرتبطة بكبح التضخم”.
وتثير خطوة البنك المركزي المزيد من التساؤلات، حيث يشير خبراء اقتصاد لموقع “الحرة” إلى أنها لا ترتبط في الأساس بمكافحة التضخم الذي سجل 31.8 بالمئة في أبريل الماضي، ويستهدف المركزي تخفيضه إلى 7 بالمئة (± 2 نقطة مئوية) خلال الربع الرابع من عام 2024.
“رفض البنوك إقراض الحكومة”
ويؤكد الخبير الاقتصادي، وائل النحاس، أن “هذه الخطوة جاءت بعدما طرح المركزي آلية جديدة لمزادات السعر الثابت، حيث تتيح له قبول جميع العروض المقدمة من البنوك التي تتوافق مع المعايير التي يضعها فقط، بدلا من نظام التخصيص”.
ويقول في اتصال هاتفي مع موقع “الحرة” إن “المركزي سعى لسحب فائض السيولة، بعدما رفضت البنوك تخفيض معدلات الفائدة على أدوات الدين الحكومية (أدوات دين حكومية محلية قصيرة الأجل تبيعها وزارة المالية عبر البنك المركزي لتمويل عجز الموازنة مقابل فوائد تتحصل عليها البنوك)”.
ويضيف النحاس: “البنوك رفضت إقراض الدولة بفائدة منخفضة، وباعتبار أن البنك المركزي ممثل لوزارة المالية، التي ترفض طلبات البنوك عند فائدة تتجاوز 31 بالمئة، فهو لجأ إلى هذه الخطوة لسحب السيولة، خصوصا مع إمكانية توافر سيولة ضخمة لدى الحكومة بعد الحصول على الدفعة الثانية من صفقة رأس الحكمة”.
وتسلمت مصر، الأربعاء، 14 مليار دولار من الإمارات قيمة الدفعة الثانية من صفقة رأس الحكمة، وفق بيان صادر عن مجلس الوزراء.
كما نقل البيان عن رئيس الوزراء المصري، مصطفى مدبولي، قوله “بدأنا بالتعاون مع الجانب الإماراتي في إجراءات التنازل عن قيمة وديعة دولارية إماراتية بنحو 6 مليارات دولار على أن يتم تحويل قيمتها إلى ما يعادلها بالجنيه المصري، وفقا لما تم الاتفاق بشأنه في اتفاقية الشراكة الاستثمارية لتنمية وتطوير مدينة رأس الحكمة بين مصر والإمارات”.
واتفقت مصر في فبراير الماضي، مع شركة القابضة (إيه.دي.كيو) -وهي صندوق سيادي تابع لحكومة أبوظبي- على ضخ 35 مليار دولار استثمارات مباشرة، لتنمية منطقة “رأس الحكمة” على البحر المتوسط بشمال غرب البلاد، ولاحقا حصلت في مارس على دفعة أولى قيمتها بـ15 مليار دولار، وهي 10 مليارات دولار تم تحويلها مباشرة، إضافة إلى 5 مليارات دولار تم تحويلها إلى ما يعادلها بالجنيه، كانت تشكل جزءا من وديعة إماراتية.
ويؤكد النحاس أن “البنك المركزي سبق خلال الأسابيع الماضية أن سحب سيولة كبيرة من البنوك تتجاوز التريليون جنيه، لكن على مدار أسبوعين وليس في مرة واحدة”.
وتظهر بيانات البنك المركزي المصري، أنه وافق على ودائع ذات عائد ثابت عند 27.75 بالمئة، في عطاءين منفصلين يومي 7 مايو الجاري، و30 أبريل الماضي، بقيمة إجمالية تصل إلى 1.33 تريليون جنيه (28.4 مليار دولار).
بدوره، يعتبر الخبير الاقتصادي والمحاضر بكلية إدارة الأعمال بالجامعة الأميركية بالقاهرة، هاني جنينة، أن “هدف البنك المركزي ليس سحب السيولة فقط، بل يسعى من خلال استحداث آلية مزادات السعر الثابت، والموافقة على كل العروض التي تتوافق مع معاييره، إلى توحيد سعر الفائدة في السوق المصرية ومعالجة التشوهات الموجودة بها”.
ويضيف لموقع “الحرة”: “تتمتع البنوك المصرية بفائض سيولة تستخدمه في ثلاثة مجالات رئيسية، تتمثل في تمويل الحكومة المصرية من خلال السندات والأذون (أدوات الدين)، أو إقراض بعضها البعض، فضلا عن الاستثمار في عطاءات البنك المركزي الأسبوعية”.
ويتابع جنينة: “الثلاث أدوات تتمتع تقريبا بذات المخاطر الضئيلة، وبالتالي من غير المنطقي أن يكون هناك أسعار فائدة مختلفة على كل أداة، مما يؤدي إلى انحراف السياسة النقدية”.
عجز الموازنة
ومنذ أن رفع المركزي المصري، مارس الماضي، أسعار الفائدة المحلية بـ6 نقاط مئوية لتصل إلى 27.25 بالمئة على الإيداع و28.25 بالمئة على الإقراض، رفضت وزارة المالية أكثر من مرة عروض بيع أذون خزانة بعد أن تجاوزت الفائدة 31 بالمئة.
ومع ذلك، يقول النحاس إنه “لا بديل أمام وزارة المالية سوى الاقتراض بأسعار الفائدة المرتفعة، خصوصا أن رفع الفائدة وتحرير سعر الصرف، يضغطان على الموازنة العامة للدولة خلال العام المالي الحالي، ويمثلون تكلفة باهظة”.
ويضيف: “الحكومة في حاجة إلى مبالغ ضخمة ولا تستطيع طباعتها أو السحب على المكشوف من البنك المركزي، لذلك ليس أمام وزارة المالية سوى بيع أدوات الدين للبنوك بفائدة مرتفعة، من أجل تسوية حسابات الميزانية للسنة المالية الحالية التي تنتهي في 30 يونيو المقبل”.
وفي كل الأحوال ستحقق وزارة المالية عجزا في الموازنة العامة للدولة، يقدر بنحو 7.1 بالمئة بنهاية العام المالي الحالي، وفق النحاس، والذي يتوقع أيضا أن “يتسارع عجز موازنة العام المالي المقبل إلى 7.7 بالمئة”.
وتقدر وزارة المالية، عجز موازنة العام المالي الحالي بنحو 7 بالمئة، على أن ينخفض إلى 6 بالمئة خلال موازنة العام المالي المقبل، والتي تستهدف من خلالها اقتراض نحو 2.850 تريليون جنيه (60 مليار دولار تقريبا) من الأسواق المحلية والدولية.
بدوره يقول جنينة إن “وزارة المالية مطالبة ببيع أدوات الدين بفائدة تتناسب مع مستهدفاتها فيما يتعلق بعجز الموازنة”، لكنه يُقر بأن تأثير “قرار آلية البنك المركزي لن يكون كبيرا فيما يتعلق بعجز الموازنة”.
ويضيف: “في كل الأحوال هذا الأمر قد يساعد وزارة المالية على الحد من الإنفاق وفق اتفاقها مع صندوق النقد الدولي، وبخلاف ذلك ستكون هناك قرارات ذات انعكاسات اقتصادية وسياسية كبيرة، بما في ذلك زيادة أسعار البنزين والسولار والكهرباء بمعدلات أكبر، في سبيل تخفيض النفقات وتحقيق الأهداف المتفق عليها”.
ويؤكد هذا أيضا، المحلل الاقتصادي، سيد خضر، والذي يقول لموقع “الحرة” إن “اعتماد الحكومة بشكل كبير على الاقتراض بأسعار فائدة مرتفعة لتمويل العجز في الموازنة، سيزيد بالتبعية عبء الديون على الميزانية العامة، وهذا قد يدفعها إلى تقليص الإنفاق أو البحث عن مصادر تمويل بديلة لتعويض زيادة تكلفة الاقتراض”.
ويضيف خضر: “هذا الأمر يستدعي اتخاذ إجراءات تقشفية أو تعديلات في السياسة الضريبية لتعويض العجز المتزايد في الموازنة العامة”.
وأكد تقرير لخبراء صندوق النقد الدولي أوردته وكالة “رويترز”، الشهر الماضي، أن السلطات المصرية “تعهدت بالكف عن تجاوز وزارة المالية واقتراض مليارات الدولارات مباشرة من البنك المركزي”.
وأوضح التقرير أن البنك المركزي المصري أقرض ما يصل إلى 765 مليار جنيه (15.9 مليار دولار) لمؤسسات حكومية بخلاف وزارة المالية حتى فبراير 2023، وذلك بالمخالفة لقانون للبنك المركزي لعام 2020. ولم يوضح التقرير متى بدأت تلك الممارسات.
ووفق بيانات وزارة المالية، يمثل بند مدفوعات الفوائد في موازنة العام المالي المقبل نسبة 47 بالمئة، بنحو 1.834 تريليون جنيه (38 مليار دولار)، مقارنة بنحو 1.120 تريليون جنيه (23 مليار دولار) تمثل 37 بالمئة من موازنة العام المالي الحالي.
لهذا يقول جنينة: “في الأخير وزارة المالية ملتزمة بخفض الإنفاق والعجز كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي وفقا لاتفاقها مع صندوق النقد”.
إلى أين تتجه الفائدة بمصر؟
يعتبر الخبراء خلال حديثهم أن خطوة البنك المركزي قد تشير إلى خفض محتمل في أسعار الفائدة خلال الاجتماع المقبل، المقرر يوم 23 مايو الجاري، إذ يقول النحاس: “يبدو أن هناك قرارا فيما يتعلق بتحريك سعر الفائدة في الاجتماع القادم”.
وتؤكد هذا أيضا، الخبيرة الاقتصادية، حنان رمسيس، والتي تقول لموقع “الحرة” إن “من المحتمل أن يتجه المركزي إلى تخفيض الفائدة الأسبوع المقبل، بعدما أظهر التضخم تباطؤ في أبريل، وكذلك أيضا لمساعد وزارة المالية على خفض تكلفة التمويل المرتبطة بالاقتراض من البنوك”.
وأظهرت بيانات من البنك المركزي المصري، الأسبوع الماضي، أن التضخم الأساسي في مصر انخفض إلى 31.8 بالمئة على أساس سنوي في أبريل من 33.7 بالمئة في مارس.
وتضيف رمسيس: “البنك المركزي وجه البنوك الحكومية بخفض أسعار الفائدة على شهادات الادخار مؤخرا وهي تدرس فعلا القيام بذلك، وهذه خطوة تسبق في العادة قرارات مرتبطة بسعر الفائدة الرئيسي بالبنك المركزي”.
في المقابل، تتوقع وكالة التصنيف الائتماني “فيتش” أن يبقي البنك المركزي المصري على أسعار الفائدة دون تغيير حتى نهاية عام 2024.
وتقول في تقرير نشر، الجمعة، إن البنك المركزي المصري سيبدأ دورة تخفيف السياسة النقدية في عام 2025 مع انخفاض التضخم بشكل أكبر، من 19 بالمئة متوقع في نهاية عام 2024 إلى 11.8 بالمئة في عام 2025.
فيما ذكر جيمس سوانستون من مؤسسة “كابيتال إيكونوميكس” للأبحاث، في مذكرة، قبل أسبوع، إن “من غير المرجح أن يخفض المركزي المصري أسعار الفائدة حتى عام 2025″، متوقعا أن “يظل التضخم في البلاد أعلى من مستوى 25 بالمئة على أساس سنوي حتى نهاية 2024”.