أخبارشؤون عربية

لا تبيعوا ما تبقى من أرواحنا”.. وصية أنس الشريف من قلب الركام

كتب: عبد الله معروف
أنا أنس الشريف، لست فقط صحفيًا يحمل الكاميرا، بل مسعفًا يركض بين الجثث والركام، أبحث عن نبضة حياة في جسد طفل أو امرأة قبل أن يبتلعهم الغبار. لم أكتب يومًا إلا الحقيقة، ولم أصوّر إلا ما رأته عيناي، وما حملته يداي من أشلاء ودماء. يأتي إليّ الناس كل يوم، يحملون وجعهم إليّ وكأنني صندوق أسرارهم الأخير. امرأة فقدت زوجها وأولادها، شيخ طردوه من بيته بعد أن صار رمادًا، أطفال ينامون على الأرض جوعى، يسألونني: “يا أنس، قل للعالم إننا نموت”. لكن العالم مشغول، والقادة مشغولون أكثر… مشغولون بمفاوضات لا تُطعم جائعًا، ولا تُسعف جريحًا، ولا تُعيد بيتًا. مفاوضات من أجل كراسيهم، وألقابهم، ومناصبهم، لا من أجلنا نحن الذين نموت هنا. أنا كنت في الشمال، ورأيت بأم عيني كيف تحول كل شيء إلى خراب. المستشفيات، المدارس، المساجد، البيوت… لم يبق شيء. مستشفى كمال عدوان، الذي اعتقد الناس أنه محمي بالقوانين الدولية، سقط على رؤوس المرضى ومن احتمى به. كنت هناك، أحاول أن أُخرج من تحت الركام طفلةً لم يبق منها إلا يد صغيرة متماسكة بدمية. قلت لهم: “اعتبروا مما حدث في الشمال قبل أن تنتقلوا إلى المنتصف… فالمنتصف إن سقط، سيسقط معه كل شيء.” لكن لا أحد يسمع. اليوم، كل هذا الجوع والدمار والقصف، كل هذا الموت الذي نعيشه، ليس إلا ثمنًا يُدفع لصالح فصيل بعينه. هؤلاء الذين يتحدثون باسمنا يفاوضون من أجل أسرارهم ومصالحهم، ينسون الجائع، ينسون الأم التي تبحث عن ابنها بين الجثث، ينسون أننا لسنا أرقامًا في نشراتهم، بل أرواحًا تذبل كل يوم. أنا لم أختر الموت… اخترت قول الحقيقة. أنا أنس الشريف، الصحفي والمسعف، شاهد العيان الذي حمل الكاميرا بيد، والإسعاف باليد الأخرى. رأيت الأشلاء، وسمعت صرخات الأمهات، وحملت جثث الأطفال، وصوّرت ما لم يستطع العالم تحمله. وصيتي لكم: لا تفاوضوا باسمنا. لا تساوموا على دمنا. لا تجعلوا موتنا سلّمًا لمناصبكم. تذكروا أن غزة ليست حجارة وأرضًا فقط، غزة هي قلوبنا وذكرياتنا وأطفالنا… إن دمرتموها فلن يبقى لنا شيء. أنا ذاهب، لكن كلماتي ستبقى: “لا تبيعوا ما تبقى من أرواحنا… فقد بعتم الكثير بالفعل”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى