حكاية جبل الكريستال العجيب في الوادي.. هل يحتوي على الألماس

ضاء جبل الكريستال في قلب الصحراء البيضاء غرب مصر سجلًا طويلًا من الجمال الجيولوجي والحكايات السياحية، كاشفًا عن تكوينٍ فريد صاغته الطبيعة عبر ملايين السنين، وموقعٍ جغرافي جعل من الواحة مقصدًا لعشّاق السفاري والباحثين.يقع الجبل في نطاق محمية الصحراء البيضاء شمال واحة الفرافرة بنحو 85–120 كيلومترًا، وعلى مسافة تقارب 115–160 كيلومترًا من الواحات البحرية، وبين بريق البلورات الذي يلمع تحت الشمس، وتاريخٍ يروى منذ العصور الكريتاسية والإيوسينية، تتشكل القصة التي يعيد “مصراوي” سردها بالاعتماد على شهادات علمية وميدانية خاصة.
النشأة: من بحرٍ قديم إلى قوسٍ متلألئ
قال الدكتور جبيلي أبو الخير، أستاذ الجيولوجيا بكلية العلوم جامعة الوادي الجديد، لـ”مصراوي”، إن منطقة الصحراء البيضاء كانت جزءًا من بيئة بحرية قديمة خلال العصر الكريتاسي والإيوسيني، ومع الجفاف التدريجي وعمليات الإذابة وإعادة التبلور، تكوّنت طبقات من الكربونات والطباشير، ثم أعادت مياه الأمطار الحمضية تشكيلها في صورة بلورات كربونية يمكن رؤيتها بالعين المجرّدة.وأوضح جبيلي، أن آلية إعادة التبلور جرت بعد أن حوّلت الحبيبات الدقيقة إلى كريستالات أكبر طولًا قد يصل إلى 9–10 سنتيمترات، مشيرًا إلى أن اللون الأبيض الشفاف يظل السمة الغالبة، مع ظهور درجات مائلة للأحمر أو الأخضر تبعًا للشوائب المعدنية التي تحملها المياه خلال مساراتها في الصخور.وأشار إلى، أن الطبقات المذابة خلّفت كهوفًا صغيرة وبواطنٍ مبطنة ببلورات تشكّل أشكالًا تركيبية فريدة، وهو ما يمنح الجبل قيمته العلمية والجمالية في آنٍ واحد. ووفق المصادر ذاتها، يتبدّى الجبل للزائر كقوس صخري متلألئ، يلتقط أشعة الشمس ليحاكي “تاجًا” مرصعًا بالضياء وسط اتساع الرمال.
طريق البلورات: بين روايات “الماس” وحقيقة الصخور
على مدى سنوات، تداول زوار وسياح روايات تزعم أن ما يلمع في جبل الكريستال أحجار كريمة أو “ماس” ذهبت به الأساطير بعيدًا.محمد جبريل، مسئول بمحمية الصحراء البيضاء بواحة الفرافرة، أكد لـ”مصراوي” أن هذه الروايات غير دقيقة علميًا؛ فالمكوّن الغالب هو صخور كربونية أو زجاجية/كوارتزية الطابع، ذات قيمة جمالية وبيئية استثنائية، لكنّها لا تُعامل كأحجار كريمة اقتصادية في أسواق المعادن النفيسة.وأضاف جبريل، أن الجدل حول عدد أنواع الكريستال يرتبط بتسميات شعبية واسعة؛ إذ يتحدث البعض عن أكثر من 12 نوعًا، ويتوسّع آخرون في إطلاق مسميات فرعية كثيرة تصل إلى أرقام أكبر، بينما تؤكد القراءة العلمية أن الكتلة جيولوجيًا من نوع واحد في الأصل طرأت عليه تحولات لونية وبنيوية بفعل الشوائب والظروف البيئية.
زيارات قديمة.. وتمثال من البلورات
أكد محسن عبد المنعم الصايغ، مدير الهيئة المصرية لتنشيط السياحة بالوادي الجديد، لمصراوي، أن هناك صلة حضارية مبكرة بين المنطقة والعصور الكلاسيكية، لافتا إلى أن اليونانيين والرومان عرفوا موضع البلورات واهتموا بجمالها، حتى جرى وفق روايات مؤرشفة نحت تمثال صغير لإيزيس من مادة مشابهة للبلورات المعروفة بالمنطقة، وهو ما يسلّط الضوء على تقديرٍ رمزيٍّ قديم لذلك اللمعان الطبيعي، وإن ظلّ الدليل العلمي الحديث يضع الأمور في إطارها: قيمة جمالية-طبيعية لا اقتصادية.
ما قبل الحماية: جمعٌ عشوائي وتهديد لجسم الجبل
خلال سنواتٍ سبقت إعلان الحماية، قصدت قوافل السفاري محيط الجبل، وشاع بين الزوار جمع القطع المتناثرة كتذكارات وقال محسن عبدالمنعم، إن هذه الممارسات إلى جانب عوامل التعرية نالت من كثافة البلورات السطحية وأفقدت المشهد بعضًا من غزارته القديمة، ورغم محاولات لطرح مشروعات استثمارية شملت شق طرق ومنشآت قرب الموقع، جرى إيقافها بعد اعتراضات بيئية واسعة، حفاظًا على هشاشة التكوين وخصوصية المنظر الطبيعي.
قرار الحماية: محمية الصحراء البيضاء.. الإطار الذي صان المشهد
مع بداية الألفية الجديدة، جرى إعلان الصحراء البيضاء محمية طبيعية عام 2002 على مساحة تقارب 3010 كيلومترات مربعة ضمن نطاق إجمالي يقترب من 4 آلاف كيلومتر مربع، لتشمل عين خضرا وعين السرو وعين المكفي كمحطات طبيعية للاستراحة وتزويد الرحلات بالمياه. وأفاد محمد جبريل، مسؤول بمحمية الصحراء البيضاء بالفرافرة، بأن جبل الكريستال جزءٌ أصيل من هذا النطاق، يستفيد من نُظم الدخول والمرور وضوابط الزيارة التي تهدف إلى تخفيف الضغط البشري وحماية التكوينات، خاصةً بعد نضوب أجزاء متناثرة بفعل الجمع القديم.
قراءة علمية راهنة: لماذا يظل جبل الكريستال “نادرًا”؟
يقول الجيولوجي والباحث الحسيني محمد، من باحثي علم الجيولوجيا والرسوبيات الصخرية بموقع إنتاج الفوسفات بهضبة أبو طرطور بالوادي الجديد، إن هناك 3 أسباب تجعل من جبل الكريستال مَعْلمًا نادرًا:1. التكوين البنيوي: البلورات نتاج إعادة تبلور لطبقات كربونية/طباشيرية مذابة، ما يخلق نسيجًا بصريًا يندر تكراره بهذه الكثافة في موضع مكشوف من الصحراء.2. الهندسة الطبيعية: كهوفٌ صغيرة وصواعد وهوابط ومقاطع لامعة تعكس الضوء في تشكيلات تركيبية تشبه الأعمال الفنية.3. السياق المكاني: وجوده في مستهل مسار الصحراء البيضاء يمنح الزائر تجربة بصرية متتابعة: من القباب الطباشيرية إلى القوس البلوري، في سفرٍ جيولوجي قصير المسافة، عميق الأثر.ويشير إلى، أن ارتفاع الجبل يقارب عشرة أمتار في بعض مواضعه، وأن الكهوف القديمة التي تدلّت منها قطع شفافة تهدّم بعضها مع الزمن بفعل العوامل الطبيعية وكثافة الزيارات، الأمر الذي يضاعف الحاجة إلى إرشادٍ سياحي واعٍ ومسارات محددة.
الأساطير التي جرى تفكيكها.. والكنز الذي ينبغي صونه
رافقت شهرة جبل الكريستال أساطير اقتصادية حول “أغلى جبل” و”أحجار ماس”، قبل أن يفككها مختصون تحدّثوا لـ«مصراوي» وهو محمد محسن عبد المنعم، مرشد سياحي ومتخصص رحلات سفاري بالمنطقة والمشهور بلقب ” ثعلب الصحراء”، مؤكدا أن القيمة هنا جمالية-علمية لا تجارية؛ فهي ثروة طبيعية غير متجددة، يعادل توازنها ثمنها الحقيقي. وتوضح المصادر أن البريق الملون يعكس خصائص فيزيائية للبلورات وتفاوتًا في الشوائب الطبيعية، وأن المسميات الشعبية لكثرة الأنواع تعود غالبًا إلى تنويعات لونية وبصرية أكثر من اختلافٍ معدني جوهري.ويعود ليؤكد الدكتور جبيلي أبو الخير، أستاذ الجيولوجيا بعلوم الوادي الجديد، أنه من الأقدم إلى الأحدث هناك خطٌ زمنيّ موجز للجبل يتضمن ما يلي:•80–100 مليون سنة مضت: بيئة بحرية قديمة وتكوّن طبقات الطباشير والكربونات.•لاحقًا: إذابة بمياه أمطار حمضية وعمليات إعادة تبلور كوّنت البلورات المرئية.•العصور الكلاسيكية: إشارات إلى معرفة اليونانيين والرومان بالمكان، وتقدير لجمالية البلورات.•القرنان 19–20: رحّالة ومستكشفون ومذكّرات سفر أعادت اكتشاف جمال الواحات.•قبل 2002: جمعٌ عشوائي لقطع متناثرة وتفكير في مشروعات قرب الموقع.•عام 2002إعلان الصحراء البيضاء محمية طبيعية، وتطبيق ضوابط دخول.
شهادة من المحمية: الجمال لا يُباع
قال محمد جبريل، مسؤول في محمية الصحراء البيضاء لمصراوي، إن قيمة جبل الكريستال لا تُقاس بالميزان، موضحًا أن “الحديث عن بيع الأحجار باعتبارها كريمة غير صحيح علميًا ومنافٍ لفلسفة الحماية؛ فالجبل ملكٌ للطبيعة، وواجبنا أن نمرّ به خفيفي الأثر، لا أن نقتطع من جسده”.وأضاف أن خطة الإدارة تعتمد على تنظيم الزيارات، وتوجيه المرشدين، والتعاون مع المجتمع المحلي لضمان استدامة السياحة البيئية التي تُنعش الاقتصاد دون المساس بأصول المكان ومؤكدا أعاد جبل الكريستال رسم مشهدٍ مصريٍّ نادرٍ يجمع الجيولوجيا والسياحة البيئية والذاكرة الحضارية، ومع أن الأساطير صنعت له “قيمة اقتصادية” موهومة، فإن القيمة الحقيقية في حمايته وتفسيره علميًا وتقديمه للناس كما هو: قوسٌ من الضوء فوق صحراءٍ بيضاء، وحكايةٌ قديمة لا تزال تلمع.